حصل ذلك (هناك) يوم أمس، أو قبل أسبوع، أو قبل شهر، أو قبل سنة، سنوات... لا فرق. أن تسمع صوت إطلاق نار هناك فذاك هو «العادي». هناك، في مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين، أو في «مخيّم» برج البراجنة لـ»اللاجئين» اللبنانيين، في المريجة والليلكي وحيّ السلّم، في عموم الضاحية الجنوبيّة لبيروت، هناك حيث كلّ يوم لا يَشهد رصاصاً فهو عيد. هذا هو الثابث، أمّا المتحوّل فليس سوى زيادة في كميّة الرصاص، وأحياناً الدماء، فعندها، وعندها فقط، تُصبح «الحادثة» خبراً تلتهمه وسائل الإعلام لتُعيد تصديره.
لا، لم تكن الاشتباكات في مخيّم البرج ومحيطه، أمس، بين الفلسطينيين واللبنانيين. لم يَكن بينهم حتّى مِن غير «ألف لام التعريف». حقارة أن يُصدّر الخبر بعناوين كهذه. سيُقال سطحيّة إعلاميّة؟ كلا، إنّها حقارة، وسوء الظنّ هنا يُصبح واجباً. المتقاتلون هناك هم أُناس «العالم السفلي». لا جنسيّات بينهم، لا مذاهب، لا عشائريّة أو عائليّة، كلّها مجرّد لافتات تخفي وراءها حقيقة مَن هم. إنّهم طبقة «تحت». هل نُردّد حكاية الفقراء الذين يُقاتلون فقراء؟ نعم هذه هي. مُملّة صحيح، لكن هذه هي. فقر ممنهج، جهل مُنظّم، بيئة أصبحت الشراسة فيها مِن أسباب البقاء. عشوائيّات شاملة، الأبنية فيها أكثر الأشياء تنظيماً.

يتخوّف البعض من أن يكون ما حصل لعبة تمويهيّة لشيء يحصل في مكان آخر

قبل أسبوع كان ابن جعفر، أو سواه مِن اللبنانيين، وابن القفاص، أو سواه مِن الفلسطينيين، تجمعهما سهرة عامرة بحشيشة الكيف (وما فوقها). كانوا يبحثون عن بيع «قطعة سلاح» أو تصريف درّاجة ناريّة مسروقة. هذه تفاصيل. ما تجمعه تجارة المخدّرات لا يُفرّقه رصاص. غداً، أو بعد غد، سيعود الودّ بينهم. الآن اختلفوا. لم يعرف الجميع بودّهم، إلى ما قبل أيّام، لكنّ الجميع عرف بأمر قتالهم. قيل إنّ النزاع بدأ على خلفيّة بناء مخالف (إدخال رمول وما شاكل). مَن لم يَدخل المخيّم يوماً سيصعب عليه تصوّر المشهد. ثمّة مَن لا يزال يتحدّث عن أبنيّة مخالفة هناك! هذا هو الهراء. إن كنت تتحدّث مع زوجتك، داخل غرفة نومك هناك، فسيسمعك جارك. سيسمع أنفاسك ولو حرصت. الناس بعضهم فوق البعض الآخر. هناك «زواريب» لا يمكنك النفاذ منها إلا موارباً. يُفضّل أن يكون الزائر هزيل البنية. حكاية مخالفة البناء مجرّد حكاية، لذا تسمع مسؤولين أمنيين يتحدّثون عنها كواجهة، لكن، في العمق، يقولون ابحث عن «الممنوعات» وعوالمها. ليس «الأمن» (وجيوبه) بريئاً مِن اللعبة دائماً.
ما الذي حصل أمس؟ تقول الرواية الأمنيّة إنّ أحد قاطني «حيّ البعلبكيّة» أطلق النار، قبل نحو أسبوع، على شخص فلسطيني مِن قاطني المخيّم. لم يَمُت. لهذا المُصاب جماعة وأهل. ردّوا أمس بالمثل. جريح بجريح... واندلعت الاشتباكات. كانت حادّة جدّاً. حادّة إلى حدّ أنّ أبناء المنطقة، مِن المعتادين أصوات الرصاص، شعروا بالذعر. ما الحكاية؟ لا يوجد «داعش». هذا الأكيد. أسلحة رشّاشة فرديّة ومتوسّطة، قنابل يدويّة، ثمّ قذائف صاروخيّة، وأخيراً أخطرها: القنص مِن مبانٍ عالية. هذه عدّة المعركة. قُطِعت الطرقات المحيطة مِن كلّ الاتجاهات. أصوات سيارات إسعاف. مشاهد الدخان والنار طارت صورها إلى الخارج، عبر الهواتف، ومعها الكثير مِن الشائعات. نحو خمس ساعات مِن الاشتباكات المتقطّعة. لنا أن نتخيّل كمَّ الذخيرة الذي استُخدِم.
لو أن ربع الذخائر المستخدمة أصابات أهدافها لكنّا أمام مجزرة. سقط قتيل واحد. هذا ما كان مؤكّداً حتى مساء أمس. نُقل إلى مستشفى الساحل، حيث فارق الحياة، وهو «مدني» لا علاقة له بالاشتباكات. حُكي عن قتيل آخر. الجرحى مؤكّدون، وقيل إنّ أحدهم حالته حرجة. مسؤول في «حركة حماس» أصيب بطلق ناري في ظهره أيضاً. رواية قالت إنّ مُطلق النار هو فلسطيني، مِن المخيّم، اختلف مع المسؤول «الحمساوي» حول ما يجري. رواية أخرى قالت إنّ الطلق الذي أصابه إنّما هو مِن قناص «مجهول». مسؤول أمني تحدّث عن خوف مِن «طابور خامس». هذا الطابور الأسطوري، الأزلي، الذي لم يُفلح أحد في تحديد عنوانه يوماً. تطوّرت الأمور أمس إلى حدّ أن وزير الداخليّة، نهاد المشنوق، غادر جلسة مجلس الوزراء لمتابعة الوضع الأمني في برج البراجنة. كان لافتاً ما همس به أحد «المتابعين» ميدانيّاً، على وقع الرصاص، متخوّفاً من أن يكون ما يحصل «لا يعدو كونه لعبة تضليليّة لشيء يحصل في نقطة أخرى، ربّما إدخال «أشياء» إلى المنطقة أو إخراجها، والله أعلم». هل يُحضّر لشيء ما؟ معقول! نقول مع القائل، الله أعلم.
بينما كانت الاشتباكات مستمرّة، حضرت دوريّات مؤللة مِن الجيش اللبناني، ومع ذلك استمر إطلاق النار. تردّد أن الجيش ردّ على مصادر النيران لإسكاتها. توقّف كلّ شيء مساءً. المحال التجاريّة في محيط المخيّم، بل في عموم برج البراجنة، أقفلت أبوابها باكراً. انتشار مسلحّ كثيف مِن «اللجان الأمنيّة» في الطرقات والزواريب المشتركة. تطير شائعة تتحدّث عن توقف حركة الملاحة الجويّة في مطار بيروت. تُكذّب الشائعة لاحقاً. سببها، ربّما، ما قيل عن قذيفة صاروخيّة طارت بعيداً عن المنطقة. يُعلن عن اجتماع مركزي للفصائل الفلسطينيّة في المخيّم، ثمّ يُصرّح مسؤول «فتح» قائلاً: «نؤّكد الالتزام بوقف إطلاق النار وبالجهود التي يبذلها الجيش لإعادة الوضع إلى طبيعته». أين حزب الله؟ لا شيء يُرعب الحزب أكثر مِن هذه «الفتنة». هذه اللعنة التي لم يبقَ أحد لم يلعب على وترها. الحزب كان «أطفائيّة» أمس، لكن بصمت، مِن بعيد. وقد صرّح المسؤول «الفتحاوي» في هذا الشأن: «الوضع أصبح هادئاً، نتواصل مع الجيش وقيادتي أمل وحزب الله، وأبلغناهم سحب المسلّحين، فما حصل هو إشكال فردي ولا خلفيّات (سياسيّة) له».
عاد الوضع إلى طبيعته. هكذا تحدّث المسؤولون. «طبيعته» هذه هي كلّ الحكاية. طبيعة المخيّم وأطرافه المتداخلة، طبيعة تلك الأحياء «البرجاويّة» خارجه، ومنِها «حيّ الجورة» الأشهر. هناك حيث وصل الأمر قبل مدّة إلى أن تُباع المخدرات، علناً، وسط الأزقّة. طلبك موجود، على عينك يا كوكب، بسعر الجملة والمفرّق. حتّى المُسدسات تُباع علناً. تلك المنطقة، هناك، المتروكة منذ دهر لمختلف أصناف الموت، سيعود كلّ شيء فيها إلى «طبيعته». لا تُحصى الأحكام القضائيّة، فضلاً عن التقارير الأمنيّة، التي يرد فيها ذكر «حيّ الجورة» (اللبناني) والمخيّم (الفلسطيني) في قضايا مخدّرات وسلاح وسلب (إلخ). الأجهزة الأمنيّة تعرف هذا وأكثر. كلّ «المعنيين» هناك، بلا اسثتناء، يعرفون. هل نتحدّث عن «معزوفة» معالجة النتيجة لا السبب؟ هذه هي أيضاً. مُستهلكة صح؟ المُهم، إلى اللقاء في حلقة مُقبلة.




لا خلفيات سياسية

رغم السيناريوات التي رُسِمَت للاشتباكات التي وقعت قرب مخيم برج البراجنة أمس، أكّدت مصادر أمنية من مختلف الأجهزة الرسمية أن اشتباكات «حي الجورة» هي محض جنائية، وليس لها أي خلفيات سياسية أو مذهبية. ولفتت المصادر إلى مسارعة الفصائل الفلسطينية إلى اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لوقف الاشتباكات، ومنع تطورها. وأكّدت المصادر أن الفصائل تعاونت مع الأجهزة الأمنية، ومع حزب الله وحركة أمل، لضبط الأمن ومنع انفلات الأمور في المخيم ومحيطه.
(الأخبار)