يجادل البعض في أنَّ تهديدات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، باستهداف حاويات الأمونيا في خليج حيفا والمفاعل النووي في ديمونا غير قابلة للتنفيذ. موضوع المجادلة صحيح، لكنه أيضاً، خاطئ. صحيح أنَّ حزب الله لن يبادر إلى استهداف الأمونيا ومفاعل ديمونا، والتسبب بسقوط عشرات الآلاف إن لم يكن أكثر، من القتلى الإسرائيليين.
وصحيح أيضاً أنَّ الحزب لن يبادر بشنِّ هجوم على البنية التحتية الاستراتيجية لإسرائيل، في عرض البحر أو داخل البر في فلسطين المحتلة، بما يشمل قطاع الكهرباء والمياه والموانئ والمطارات وغيرها. وهو يدرك، مسبقاً، أنَّ لدى العدو القدرة الفعلية على استهداف مقابل لمدنيي لبنان وبنيته التحتية.
الخطأ في المجادلة هو استبعاد استهداف هذه المواقع وجعلها ممتنعة بالمطلق. فالحزب لن يبادر بشنّ هجوم. لكن أي فعل يقوم به، سيأتي رداً على فعل إسرائيلي باستهداف المدنيين والبنية التحتية اللبنانية. تبعاً لذلك، يكون رد حزب الله طبيعياً وتناسبياً، وكذلك أخلاقياً.

هذا النوع من التوازن
هو ما يُقيّد التفوّق
العسكري الإسرائيلي

على أساس هذه الفرضية، لا يبقى استهداف الأمونيا، وغيرها، فعلاً غير قابل للتحقق. إقدام إسرائيل على استهداف لبنان بمدنييه وبنيته التحتية يفرض ـــ فرضاً وليس خياراً ــــ أن يردّ الحزب رداً تناسبياً.
الفرق بين الوضع القائم وما سبق، أنَّ المعادلة التي كانت تحكم المواجهة غير الصاخبة بين الجانبين، وتلك التي ستحكمها في الحرب إن نشبت، تغيّرت تغيراً جذرياً. عندما أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي ايزنكوت "عقيدة الضاحية" عام 2008، بمعنى التدمير الشامل وقتل المدنيين والبنية التحتية للبنان، كان يقصد ما يقوله. شدد في حينه على أنها خطة للتنفيذ وليست مجرد كلام نظري. وهذه هي استراتيجية إسرائيل للحرب المقبلة، وأيضاً لما "دون الحرب"، كجولة قتال تدوم أياماً قليلة. إلا أن القدرة التدميرية التي باتت في حوزة حزب الله، مع دقة الإصابة التي تمكنه من استهداف أي موقع يختاره وتدميره، غيّرت المعادلات. كانت إسرائيل تهدد، مثلاً، باستهداف الكهرباء في لبنان، كرد على فعل أو رد لحزب الله على اعتداءاتها، ومهما كان تكتيكياً. حالياً، استهداف إسرائيل للكهرباء في لبنان ممتنع لأن استهداف كهربائها في المقابل بات ممكناً. في موازاة ذلك، استهداف المدنيين ابتداءً كان خياراً إسرائيلياً لتدفيع حزب الله ثمناً أو تأليب بيئته عليه، لمنعه من تفعيل قدراته بالرد عليها. حالياً، وربطاً بالقدرات الدقيقة والتدميرية والمتعددة الطبقات، بات بإمكان حزب الله الرد بما يتناسب، الأمر الذي يدفعها إلى التفكير طويلاً قبل أن تقدم على تنفيذ تهديداتها. وإذا قامت إسرائيل بالابتعاد عن استهداف المدنيين، من الآن وصاعداً، وهو ما يحدث فعلياً، فليس لأنها تخشى تزعزع صورتها في الإعلام الغربي، بل لأنها تخشى سقوط إصابات لدى مستوطنيها، والسببان تتأسس عليهما أفعال وإمكانات مختلفة تماماً.
ضمن هذه المعادلة ــــ الندية في طبقة الأهداف الاستراتيجية، والتي تترسخ يوماً بعد يوم مع تعاظم قدرات حزب الله التدميرية والدقيقة ــــ ترتدع إسرائيل عن استهداف مدنيي لبنان وبنيته التحتية. ومهما كان لدى إسرائيل قدرة تدميرية هائلة، يكفي أن يملك أعداؤها في المقابل قدرة مقابلة كرد متناسب لتحقيق الهدف. في هذه الدائرة، لا يستقيم حديث إسرائيل عن "سلاح كاسر للتوازن" تحصل عليه المقاومة. إذ إنَّ الواقع وميزان القوى بين الجانبين كان مكسور التوازن لمصلحة إسرائيل. وما يراكمه حزب الله يهدف في ما يهدف إليه، إلى تحقيق هذا التوازن، وهو ما قد تحقق بنسبة معتبرة جداً.
عندما تتحدث إسرائيل أنها غير معنية بالحرب الواسعة والشاملة في مواجهة حزب الله، فهي تعني أنها غير معنية باستهداف مستوطنيها وبنيتها التحتية المدنية والعسكرية، بما يشمل الكهرباء والمياه والمرافئ والمطارات وأيضاً الأمونيا وديمونا. هذا يعني اقتصار الحرب على المواجهات العسكرية المباشرة، التي باتت هي أيضاً ندية في طبيعتها، ربطاً بما يملك حزب الله من قدرات نوعية وخبرة قتالية. وهنا يكمن السبب الأهم لامتناعها عن مباشرة الحرب.
هذه المعادلة، وهذا النوع من التوازن، هو الذي يخضع التفوق العسكري الإسرائيلي لقيود يصعب التفلت منها ويضع سقفاً لخياراته العدائية وإمكان اللجوء إليها من دون المخاطرة بالوصول إلى السيناريو الأسوأ: الحرب. هو أيضاً الذي دفع ايزنكوت للإقرار بالردع المتبادل قبل سبع سنوات، عندما كان قائداً للمنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. في حديث موجه إلى جنوده، أكد أنَّ "نماذج عمل حزب الله تذكر نوعاً ما، بالحرب الباردة" (يديعوت أحرونوت 30 تشرين الثاني 2010). خلفه في قيادة المنطقة الشمالية، يائير غولان (حالياً نائب رئيس الأركان)، أشار عام 2014 أيضاً إلى أنَّ "توازن الردع المتبادل قد اتخذ موقعه بين إسرائيل وحزب الله" (إذاعة الجيش، 30 تشريو الأول 2014). وهذه الحرب الباردة (والردع المتبادل)، تقوم على إمكانات الردود المتناسبة بما يشمل وضع أمونيا حيفا ومفاعل ديمونا على لائحة أهداف المقاومة، وهو ما أبقى اعتداءات إسرائيل بعيدة عن لبنان.