توحي مواقف رئيس الحكومة سعد الحريري ومعه كتلة المستقبل، لوهلة، بأن أمامهم عدة خيارات في ما يخص قانون الانتخابات وغيره من القضايا العالقة. إلا أن الوقائع تنسف هذه الإيحاءات. فحين انتخب الحريري العماد ميشال عون رئيساً، وحين بادر لاحقاً إلى تسمية ثلث الوزراء في حكومته من التيار الوطني الحر والدائرين في فلكه، إنما كان يسلّم بوجود حاكم أخيراً في البلد، لا حَكَم ولا مجرد رجل آلي يتحكم فيه فؤاد السنيورة عن بعد.
ولعل الحريري لا يعلم أن عون الذي يتطلع إلى الحكم منذ أكثر من ربع قرن يتفرج على عهده يراوح مكانه منذ مئة يوم، ويواصل إظهار تفهمه للحريري، لكن ستأتي لحظة يوقف فيها هدر الوقت ويخبط يده على الطاولة. عندها ماذا في وسع الحريري أن يفعل؟ يقدم استقالته عبر شاشته التي يمكن أن يتوقف بثها في أيّ لحظة ما لم يفِ الديون المتراكمة عليها للأقمار الاصطناعية، أو يغرد كما يفعل معلمه السياسيّ السابق النائب وليد جنبلاط؟ في الأساس، يعطي الرئيس وسائر الأفرقاء السياسيين الأولوية للتفاهم مع الحريري، لكنهم يملكون خيارات كثيرة في حال تعنّته، فيما لا خيارات أخرى أمامه ما دام عون رئيساً، وهو لا يملك ثلثاً وزارياً معطلاً ولا أكثرية نيابية أو حتى موجة شعبية. فمنذ 12 عاماًَ يمكن القول إن الرأي العام عموماً كان يقف إلى جانب الحريري، لكن تمسّكه بالقانون الانتخابيّ غير العادل، ورفضه إجراء الانتخابات في موعدها، ورفضه المطلق للنظام النسبيّ المعمول به في غالبية الديمقراطيات في العالم، واشتراطه أن لا يترشح أحد ضدّ مرشحيه حتى يقبل بإجراء الانتخابات، تفقده التضامن الشعبيّ معه لأول مرة ربما. وعليه، في حال كان العقل السياسي لرئيس الحكومة يقظاً، ولا يعتقد أن بوسعه إسقاط عون وانتخاب رئيس جديد وتسميته رئيساً للحكومة وتشكيل حكومة لإجراء الانتخابات وفق قانونه الانتخابيّ الخاص، المبادرة إلى زيارة بعبدا لوضع اللمسات الأخيرة على قانون انتخابي عصريّ وفق النظام النسبيّ بدل الاستمرار في تضييع الوقت.
ولعل الحريري يعتقد أن عامين من الفراغ يفترض أن يسبقا في كل مرة اضطراره إلى التنازل عمّا أعطاه النظام السوريّ لوالده في التركيبة اللبنانية، إلا أن مقومات صموده من 2014 إلى 2016 لم تعد موجودة اليوم. وعليه العمل سريعاً في حال أراد الحصول على المزيد من التسهيلات المصرفية، علماً بأن مشكلة الحريري لا تتعلق بانسداد آفاقه المحلية مقارنة بتسويد وجهه أكثر أمام أقرانه من الأمراء السعوديين. فهو حين انتخَب عون رئيساً كان يقول للسعوديين إنه سيتخذ خياراً شخصياً يحاسَب على أساسه، معتقداً، وفق كتابات المقرّبين منه، أنه قادر على تقريب الرئيس عون من أفكاره السياسية. ورغم دعم السعوديين للخطوة الحريرية، فإنهم حرصوا على تأجيل استقبال الحريري في المملكة ريثما يقيّموا خطواته جيداً. لكن مرة أخرى، دلت مواقف الرئيس الأخيرة على أنه في مكان والحريري في مكان آخر. ولعل الرئيس قابل للأخذ والرد في بعض الملفات الاقتصادية، لكنه ثابت لا يتزحزح ــ هو وجمهوره ــ في الملفات السياسية. ومشكلة الحريري الكبيرة هنا تكمن في عجزه الكامل عن تقديم لجوء سياسي إلى مملكة القهر أو طلب المعونة من العواصم المستفيدة منها، ويتعين عليه التفكير ألف مرة قبل عقد مؤتمر صحافيّ يقول فيه للسعوديين قبل اللبنانيين إنه فشل في حماية التسوية السياسية التي أعادته إلى الحكم، ويتعين عليه الحرد مجدداً بضع سنوات.
الحريري في الحكم منذ شهرين، لكنه لم يسترجع شيئاً بعد من عافيته الشعبية، والتقييمات الأولية تفيد بأن خياراته الوزارية الشمالية، أقله، كانت أكثر من فاشلة، فلا الوزير محمد كبارة قادر على تأمين زعامة طرابلسية تعيد الشوارع إلى بيت الحريري، ولا الوزير معين المرعبي قادر على لملمة المستقبل في عكار.
الجميع يسلم بأن وريث رفيق الحريري يفتقد الحد الأدنى من النباهة لتسيير أموره الخاصة قبل تسيير أمور البلد، لكن يفترض أن رئيس الحكومة كان يعلم حين اتفق مع عون أنه دخل مرحلة جديدة تحمل ثلاثة عناوين: التهدئة السنية ــ الشيعية، إعادة التوازن الطائفيّ التمثيليّ إلى جميع السلطات في البلد، وتأمين حاجة النظام السياسي إلى تنفيس الاحتقان الشعبيّ من أداء الدولة العاطل. وهو أوحى بأنه يفهم ما سبق جيداً حين قبل بتصحيح التمثيل الرئاسي والحكومي، وحين بدأت مصادره الحديث عن إنجازات سريعة، مثل المترو وتحرير بعض الأملاك البحرية وإقرار سلسلة الرتب والرواتب. لكن يتبين اليوم أن من شبّ على تعليمات السنيورة ينوي أن يشيب عليها، من دون الأخذ بالاعتبار أن مجموعة ظروف أتاحت له تجربة حظه مرة أخرى، لكنها مرة ثانية وأخيرة، لأن رؤساء الحكومة الذين يسقطون يحظون عادة بفرصتين فقط لا ثلاث.