يمنع الاكتظاظ، في إحدى نظارات التوقيف في ثكنة حبيش، الموقوفين من النوم، فيضطرون الى تقسيم أنفسهم إلى «نوبات»: ينام بعضهم «كعب وراس»، فيما يتسمّر الآخرون وقوفاً في انتظار دورهم! في هذه النظارة، كما في غيرها، يتكدَّس الموقوفون بعضهم فوق البعض الآخر. أما السجون فليست أفضل حالاً. فبحسب المصادر الأمنية، هناك ٦٥٠٠ سجين في السجون التابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، من بينهم ٧٠٠ في النظارات، باستثناء الموقوفين الموجودين في سجن الريحانية التابع لوزارة الدفاع ونظارات توقيف الأمن العام.
وإذا كان الأمر على هذه الحال من السوء في وقت لا يتجاوز فيه مجموع السجناء ثمانية آلاف، فكيف ستكون الأمور في حال توقيف جميع المطلوبين على الأراضي اللبنانية؟ علماً بأنّ التقديرات تشير إلى وجود ما بين 30 ألف مذكرة توقيف و45 ألفاً. ومعظم هؤلاء مشتبه فيهم بالتورط في جرائم مخدرات أو قضايا على صلة بها، وإطلاق نار وسلب وغيرها. ويضاف إلى هؤلاء عشرات المشتبه فيهم الذين توقفهم الضابطة العدلية يومياً بحسب بيانات قوى الأمن الداخلي ومديرية التوجيه في الجيش. فهل لدى الدولة اللبنانية القدرة على استيعاب هذا العدد من الموقوفين؟ وهل لدى أجهزتها الأمنية أو القضائية الإمكانية للتحقيق مع هذا العدد الضخم؟
هذه القضية المزمنة عادت الى الاضواء بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتزايد الحديث عن نيته إقرار عفو عام يرفع المظلومية عن الآلاف ويُعيد الثقة بأجهزة الدولة الأمنية والقضائية. ورافقتها اعتصامات وقطع طرق في عدد من المناطق. وفيما تؤكد المعطيات أن رئيس الجمهورية جدّي جداً في هذا التوجه، تطرح جملة أسئلة: هل سيكون العفو عامّاً أم مشروطاً؟ وهل يقتصر على المحكومين أم يشمل الموقوفين؟ علماً بأنّ المادة 154 من قانون العقوبات تحصر الافادة من العفو بالمحكومين فقط. وإذا تعذّر بتّ العفو بسبب محاذير معينة، فهل يُكتفى بعفو خاص في قضايا محددة أم يقتصر على خفض العقوبات في جرائم محددة دون غيرها؟
يُمنح العفو العام عادة لرفع مظلومية أو إعطاء فرصة جديدة لمرتكب بوقف تطبيق العقوبة بحقه أو خفضها. وبحسب مصادر قضائية، لا يُفترض بالعفو أن يُضِرّ بالدولة، ويجب أن يستفيد منه السجين لمنحه فرصة التوبة والصفح. وبما أن العفو سيصدر بموجب قانون، فإنه سيشمل الموقوفين لا المحكومين فحسب، لا سيما أن أعداد الموقوفين تعادل ضُعفي المحكومين. وبالتالي، بحسب المصادر نفسها، فإن ذلك يفرض وجود بنود معيّنة تختص بالموقوفين لجهة تحديد نوع الجرائم المحتمل أن يشملها العفو. على سبيل المثال، جرائم المخدرات المحددة بوقت، أو حصر ذلك بالموقوفين في جرائم تعاطي المخدرات. وبالتأكيد، مع الحفاظ على الحقوق الشخصية.

طلب وزير العدل من المدّعي العام التمييزي إعداد مسوّدة لتصنيف السجناء بحسب الجرائم المنسوبة إليهم


وزير العدل السابق أشرف ريفي شكّل لجنةً سمّاها «لجنة العفو»، كُلِّفت بإعداد مسوّدة للعفو ودرس وثائق الاتصال الصادرة عن الجيش والبلاغات وقرارات الإخضاع الصادرة عن الامن العام وتحديد سبب الاكتظاظ في السجون وتأخير بتّ الملفات القضائية وإصدار الأحكام. غير أنّها لم تكن لجنة عفو بالمعنى الفعلي، بل لجنة للدراسة والتقييم.
مؤيّدو العفو يرون فيه فُرصة لإعادة تنظيم السجون وتحسين واقعها إذا ما اقتُرِن بخطة حقيقية للإصلاح، فيما يستعين مناهضوه بمعطيات تُفيد بأنّ عدداً ممن شملهم العفو سابقاً عادوا ليُكرروا جرائمهم، كما في حالة بعض موقوفي أحداث الضنية، كالقيادي في «الدولة الإسلامية» أبو بكر ميقاتي. ويفتح هذا المثال باباً للمعترضين على العفو، ليثيروا مسألة المحكومين بقضايا الإرهاب؛ فأصحاب هذا الرأي يرون أنّ المرتكبين هنا يتجاوزون قاتلاً منفرداً في فورة غضب أو سارقاً دفعته الظروف إلى ما يُسمّى «الجريمة المنظّمة» أو الجرائم الناتجة من «جمعيات الأشرار» التي تُعتبر جرائم تمس بأمن الدولة القومي. ويرى هؤلاء أنّه يحق للمشرِّع أن يستثني جرائم الإرهاب.
لم تُحدَّد بعد الجرائم التي سيشملها العفو. لكن علمت «الأخبار» أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون طلب دراسة قضائية عن طبيعة ملفات المحكومين والموقوفين، وفئات الجرائم المنسوبة إليهم. وفي هذا السياق، تؤكد مصادر سياسية وقضائية أنّ عون عازم على إقرار العفو، بعد استكمال الدراسة وتحديد من يمكن أن يشملهم. وكان رئيس الحكومة سعد الحريري قد اقترح على عون النظر في شأن موقوفي طرابلس وعبرا، ودراسة إمكان معالَجة وضعهم. وعلمت «الأخبار» أنّ وزير العدل سليم جريصاتي طلب من المدّعي العام التمييزي القاضي سمير حمود إعداد مسوّدة يُصنّف فيها الموقوفون إلى فئات، تُحدد فيها أنواع الجرائم وعدد الموقوفين والمحكومين فيها. وكشفت المصادر أنّ هناك مجموعة عُقد تُؤخِّر إنجاز العفو، منها على سبيل المثال لا الحصر، كيفية التعامل مع الموقوفين بقضايا تسهيل تعاطي المخدرات، فهل هم مروّجون، أم أنهم متعاطون؟ ورأت المصادر أن هناك وجهة لأن يشمل العفو من شاركوا في أي اقتتال داخلي في السنوات الأخيرة (كأحداث طرابلس)، ممن لم تتلطّخ أيديهم بدماء لبنانيين، عسكريين ومدنيين. وشبّهت ذلك بالعفو الذي صدر بعد الحرب الأهلية، حين «أصدرنا قانون عفو عن الذين قاتلوا بعضهم بعضاً». ورجّحت المصادر أن يشمل العفو جرائم المطبوعات، مؤكدة أنّه سيستثني جرائم القتل والاتجار بالمخدرات والجرائم الشائنة (الاغتصاب والتحرش بالأطفال...) ومن تلطّخت أيديهم بالدماء.





وثائق الاتصال وقرار الإخضاع؟

وثيقة الاتصال الصادرة عن قيادة الجيش هي مذكرة غير قضائية، تصدر على خلفية حدث أمني، بناءً على شبهة ما، ترتكز على إخبار أو معلومة يُقدِّمها مخبر أو نتيجة تحقيق أو تحريات قام بها جهاز الاستخبارات. وتسقط الوثيقة بمجرد التوقيف إذا ثبت أن لا علاقة للمشتبه فيه. وتُعمّم وثيقة الاتصال على حواجز الجيش وفصائل قوى الأمن والشرطة العسكرية بعدما يُشرَح للقضاء حيثيتها الأمنية. أما قرار الإخضاع الصادر عن الأمن العام، فلم يعد قائماً اليوم، بعد أن ألغاه اللواء عباس إبراهيم ليستبدله بما بات يُعرف بـ«تدبير إداري». غير أن التدبير الإداري لا يُحتّم توقيف الشخص المعني، لكنه يوجب التدقيق في معاملته. وغالباً ما توضع إشارة «التدبير الإداري» على معاملات الأشخاص الذين يخالفون نظام الإقامة أو على خلفية ملف أمني.





٢٦٪ من سجناء لبنان سوريون

تتغير أعداد الموقوفين يومياً بسبب عمليات التوقيف، بحسب المصادر الأمنية. وتبعاً للمعلومات الأمنية، تحوي السجون الخاضعة لسلطة قوى الأمن الداخلي ٦٤٠٠ سجين على كامل الأراضي اللبنانية حتى بداية الشهر الحالي. وتشير المصادر إلى أنّ أعداد السجناء الصادرة بحقهم أحكام قضائية لا تتجاوز ألفي سجين. وتكشف المصادر أنّ هناك ٣٣٠٠ سجين في سجن رومية المركزي وحده، فيما يتوزع ٣١٠٠ سجين على مختلف سجون لبنان. ويبرز لافتاً أنّ عدد السجناء اللبنانيين يبلغ ٣٨٥٠ سجيناً في مقابل ١٥٥٠ سجيناً سوريّ الجنسية (نسبة السجناء السوريين تعادل ٢٦٪ من مجمل سجناء لبنان) و٨٨٥ من جنسيات أخرى. يُضاف إلى هؤلاء نحو ١٠٠٠ سجين موزّعين بين النظارات ومراكز التوقيف التابعة للجيش، إذا لم يُحتسب سجناء الأمن العام، علماً بأنّ الموقوفين في النظارات يعيشون في ظروف هي الأسوأ مقارنة بباقي مراكز الاحتجاز، إذ إنّ نظارات ثكنة حبيش وحدها تحوي ١٥٠ موقوفاً بالأمانة لمصلحة النيابة العامة. يُشار إلى أنه خلال شهرين سيوضع الحجر الأساس لسجن نموذجي في بلدة مجدليا شمال لبنان، والمخصص لاستيعاب نحو ١٠٠٠ سجين، بكلفة تقدّر بنحو ٦٠ مليون دولار.




العفو المرتقب سيشمل سجناء الإرهاب؟

يؤرق العفو المرتقب سجناء «المبنى ب» المشهور بـ«مبنى الإرهاب». يخشون استثناءهم من عفوٍ يُمنّون النفس به أو قانونٍ لتخفيض العقوبات يُقلِّص أمد سجنهم. يقول أحد السجناء لـ«الأخبار»: «اعتقالات كثيرة جرت لمجرّد الشبهة، تُتبَع بتوقيف احترازي بات يسبِّب ضغطاً كبيراً ويخشى أن يولد انفجاراً»، مشيراً إلى أنّ «تباعد أمد الجلسات يعزز الاحتقان والمظلومية». يقول السجين المذكور إنّ «حرمان موقوفي الإرهاب من العفو يعني أن العفو سيكون طائفياً». سجينٌ آخر يحكي عن معاناة مكتومة يقاسيها كل سجين، إذ إنّ «أوضاع عموم الموقوفين المادية مزرية، فالكثير منهم متزوجون ولا يمتلكون شققاً لسكن عائلاتهم. وباعتقال المعيل تُهدَم العائلة ويضيع أفرادها». وعليه، يسير الأبناء على خطى الآباء لمجرّد الانتقام من الدولة. هكذا يُعاد تدوير الإرهاب بدلاً من إيجاد حلول لحماية وتحصين عائلة الموقوف التي يتضاعف لديها الشعور بالمظلومية. غير أنّ مصادر مطّلعة على الملف أبلغت «الأخبار» أنّ العفو لن يستثني موقوفي الإرهاب، مشيراً إلى أنّ ملف سجناء الإرهاب مطّاط. وذكر أنّه اتُّفق على التمييز بين نوعين من سجناء الإرهاب: الانتماء أو القتال، لافتاً إلى أنّه قد يجري الاتفاق على أنّ يشمل العفو مجرّد الانتماء إلى التنظيمات الإرهابية، لكن يُحرم منه الذين ثبت تورطهم في القتل.