يعبّر النائب السابق فارس سعيد عن واقع المسيحيين في المشهد المحلي والاقليمي في زمن الاستقطابين السنّي والشيعي، بعبارة طريفة: «لا يقطعون رؤوس ولا يفكّون محبوس ولا يدفعون فلوس». بعد مرور أربعة أشهر على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، لا يمكن القول إن الواقع الداخلي، والمسيحي تحديداً، تبدل كثيراً.
ملء الشغور الرئاسي لم يترجم بعد عملياً. فنقاش الموازنة، بحسب أحد السياسيين المخضرمين، لا يعني أن المشكلة حلت، لا في قطع الحساب ولا في نوعية الضرائب ولا في التوجه المالي والاقتصادي العام. ومراسيم النفط لا تعني أن الازمات المزمنة بدأت تجد طريقها الى الحل، والنقاش العقيم حول قانون الانتخاب لا يعني أيضاً أن القانون أقرّ وأن الانتخابات على الابواب. والكلام على ورشة تعيينات تعيد النهضة بالقطاع الاداري والامني لا يزال حبراً على ورق، فيما يحفل جدول الاعمال ببنود عادية، جلسة بعد أخرى. وكل الضجيج الحالي من القوى السياسية التي انضوت في الحكومة، حول الازمات المعيشية والمطالب الحياتية، يبدو كأنه صادر عن أطراف المعارضة وليس عن أطراف الموالاة الذين يملكون زمام السلطة. هكذا هي صورة البلد اليوم، وهكذا تختصر عبارة سعيد ما آلت اليه حال المسيحيين في 8 أو 14 آذار، سابقاً، أو الذين أصبحوا اليوم في السلطة، ولم يتمكنوا بعد من أن يكونوا رأس حربة في مشروع أو يبادروا فعلياً من أجل عملية إنقاذ شاملة للوضع الداخلي.
المراجعات التقليدية في هذا الوسط الذي لا يزال يناقش ويجادل ويحلل ما طبيعة الدور المسيحي آنياً، لا تتناول قانون الانتخاب فحسب، بل العناصر الكاملة التي تحيط بالوضع الداخلي وسط الازمات الاقليمية المتداخلة، والتي تنعكس مباشرة على لبنان.

لا يُمكن مع
الكباش الإقليمي تصوّر إمكان خروج لبنان بانتخابات طبيعية


ففي الأزمة الإقليمية حيث يتصاعد الدور الروسي والتركي والايراني، تختلف ظروف مواكبة المسيحيين لما يحيط بلبنان، بعدما تغيّرت طبيعة العلاقة التي تربطهم بالقوى الاقليمية والدولية قياساً الى ما كانت عليه منذ الاستقلال وما قبل الحرب وخلالها، علماً بأن العصب المسيحي الاساسي لا يجد نفسه حكماً على صلة «روحية» بروسيا، كما كانت هي الحال مع فرنسا خصوصاً والغرب عموماً، رغم الدور الذي ترغب روسيا في إبرازه كحامية لمسيحيي الشرق.
وعلى تقاطع إقليمي ودولي حاد يتجه الى خلق «نهايات» ما في المنطقة، تحاول كل المجموعات التي انضوت سابقاً تحت إطار قوى 14 آذار أن تتلمس مكانها، على الأقل في البقاء والتعبير عن موقفها المستمر منذ ما قبل عام 2005. ورغم أن الاتجاه الحالي نحو ثنائية التيار الوطني والقوات اللبنانية، إلا أن النقاش بمعنى الهم المسيحي الداخلي بعيداً عن المحسوبيات وتقاسم الحصص لا يزال خارج هذين الطرفين حيث يعلو القرار الحزبي فوق كل اعتبار. من هنا يمكن لحظ الحيوية في نقاشات أبعد مما يمكن أن تقوله القوى السياسية التي تحللت من ممارسة فعلية لتوجهات 14 آذار لتنضوي تحت سقف تفاهم أوصل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة معاً الى قصر بعبدا والسراي الحكومي.
بهذا المعنى يقف رئيس الحكومة سعد الحريري موقفاً جانحاً نحو «صفر مشاكل» مع رئيس الجمهورية، لا يريد أن يفتعل معه أي مشكلة سياسية أو إدارية أو مالية. حتى الآن ينتظر الحريري خلاصات النهايات التي سترسمها المنطقة في عهد الرئيس الاميركي دونالد ترامب وما يمكن أن تسفر عنه علاقات واشنطن والرياض، وموقف الأخيرة من خطوات العهد الاولى، لا سيما أن رئيس الجمهورية يضاعف خطواته التي اعتقد خصومه أنها يمكن أن تكون حيادية إذا ما وصل الى بعبدا، ليفاجأوا بأنها تصعيدية، في ما يتعلق بحزب الله والنظام السوري. حتى هذا التصعيد سيكون الحريري مضطراً الى تدوير الزوايا بشأنه، ما دامت السعودية لم تعط بعد إشارة سلبية واضحة تجاه عون، إلا في ما هو متداول من شخصيات مقرّبة منها عن استيائها منه. أما موقفها من الحريري فقصة أخرى، لا تريد كسره لكنها لا تستسيغ إدارته للملف الداخلي.
ومشكلة النائب وليد جنبلاط اليوم أنه يصارع وحيداً ويدفع ثمن تخليه عن الخط الدفاعي الذي كان يهبّ لنجدته حين يصبح مستهدفاً كشخص وكطائفة. وهنا حساسية وضعه بعدما أصبح مطوّقاً؛ لا حلفاؤه الحقيقيون في وارد شنّ معركة من أجله كما كانت حالهم منذ عام 2005 وقبله، ولا خصومه الذين لم يغفروا له كثيراً من الزلات، سيقفون على خاطره.
أما الكلام على قانون الانتخاب فلم يعد مجدياً في مرحلة تشهد حالياً شدّ كباش إقليمي حاد لا يمكن معه تصور إمكان خروج لبنان بانتخابات «طبيعية» وفق قانون انتخاب جديد، لأن السؤال المتقدم ــ في وقت تحاول فيه الثنائية المسيحية القبض على المقاعد المسيحية وإقصاء خصومها ــ هو أي مجلس نيابي يريده حزب الله؟ هل هو المجلس الذي أراده النظام السوري بين 1992 و1996 ووقّع كل الاتفاقات الثنائية مع سوريا؟ في وقت يرتاح فيه الحزب الى لحظة يستعيد فيها رئيس الجمهورية خطاباً أقرب الى خطاب الحزب في ما يخصّ دوره والقرارت الدولية ودور إيران وسوريا. أليس من مصلحة حزب الله اليوم أن يتمسك بإجراء الانتخابات اليوم ولا يقبل بالتمديد، في فرصة إقليمية سانحة، كما كانت حال قوى 14 آذار عام 2005؟ ألا يمكن للحزب اليوم، وهو الذي يرتاح الى وضعه كيفما كان شكل القانون، أن يستفيد من المهادنة الداخلية ليحكم سيطرته أكثر على اللحظة المواتية له، فيقبض فعلياً على أول مجلس في عهد عون؟