تلحظ الباحثة في الجامعة الأميركية كارول كرباج في بحثها "السياسة بالصدفة: "الحراك" يواجه "شعوبه"" ابتعاد الأكاديميين الذين درسوا الحراك عن الناس، الذين نزلوا إلى الشارع للمرة الأولى، وتركيزهم على الناشطين.
من هنا تحدّد إطار بحثها بسؤالٍ عرضته في تقديمها للبحث: ما هي العوامل التي تفسّر مشاركة آلاف المتظاهرين للمرة الأولى في «الحراك»، وانسحابهم لاحقاً بعد تظاهرة 29 آب؟
تلخص كرباج هذه العوامل بمصطلح "السياسة بالصدفة" الذي، برأيها، قاد التحركات. فالسياسة بالصدفة هي تنظيم عفوي، مرن، يستخدم خطاباً عاطفياً وفضفاضاً وشعبوياً، يقدم تحركات استعراضية تقوم على تحويل المشاركين إلى مشاهدين في وقت لاحق، ويحقق انتصارات "رمزية" من دون رؤية سياسية واضحة. هذه السياسة قادرة على حشد المئات في الشارع سريعاً بسبب مميزاتها، إلا أنّ خطرها يكمن في أنها سريعاً أيضاً تعيد الناس إلى بيوتها من دون مطالب واضحة ورؤية سياسية وبرنامج عمل.
يقسم البحث الحراك إلى 3 مراحل: مرحلة ما قبل 19 آب، ومن 19 آب إلى 29 آب، والمرحلة الأخيرة من 1 أيلول إلى 8 تشرين الأول. المرحلة الثانية كانت مرحلة الناس حين نزلوا بكثرة إلى الساحات وازداد القمع الأمني الذي تبنته قوى السلطة، في حين أن المرحلتين الأولى والأخيرة كانتا مرحلتي الناشطين بعدما انحسرت تدريجياً أعداد الناس المشاركة.

ما الذي دفع الناس للنزول إلى الشارع؟

لم يكن هاجس "شعوب" الحراك أزمة النفايات كما يظهر في المقابلات الميدانية، بعكس ما صورته خطابات المجموعات. يقول البحث إن "هواجس المشاركين من الفئات الميسورة ركّزت عموماً على إزالة النفايات من الطرق، بينما بدا أن سخطَ معظم من التقيتهم من فئات وسطى وفقيرة تخطى مشكلة النفايات. الاستثناء الوحيد لهذا الاتجاه بدا مع مشاركَين من الشيّاح ومن الطريق الجديدة قالا إنهما قد تسمّما، وأسرهما، جرّاء تلوّث الهواء". وعليه، اعتبر البعض أن أزمة النفايات فرصة لطرح مطالبهم، في حين لم يتم استقطاب البعض الآخر الذي لم ير في أزمة النفايات، التي كان ينصب تركيز المجموعات عليها، محفزاً للنزول.
تظهر الاختلافات الطبقية أيضاً في دوافع أخرى. ففي حين شكل العنف الذي مارسته القوى الأمنية ضد المتظاهرين عامل جذب للفقراء، ابتعدت الفئات الميسورة عن الساحات مع ازدياد منسوب العنف. فكارلا، أستاذة جامعية، اعتبرت العنف الممارس من قبل "المشاغبين"، أي الفئات الفقيرة، أمراً غير حضاري، مصنفةً إياهم بأنهم "أشخاص لا يعملون، لديهم أحقاد ضد قوى الأمن، نزلوا إلى الشارع للتخريب فحسب"، في حين أن حسن، ابن الخندق الغميق العاطل من العمل، تفاعل بشكل مختلف مع العنف الذي رآه على التلفاز: "شعرت بأنهم يطالبون عنّا، ضربوا ونحن في أماكننا. فشعرنا بالذنب لأننا لم نكن معهم، ونزلنا".
بعض الناس اعتبروا أنه "لا مصلحة لهم" بالنزول، إذ يبرز الخوف من الفراغ كدافع لعدم تحرك البعض وانسحاب البعض الآخر الذي لم يشعر بجدية التحركات أو وضوح الرؤية.

خطاب المجموعات: إقصاء الناس

يحلل البحث خطابات المجموعات، مصنّفاً إياها حسب المستهدفين وطبيعة التحرك، ففي حين كان خطاب "طلعت ريحتكم" موجهاً "بشكل مباشر نحو شباب الطبقات الوسطى المتعلّمة"، حمل خطاب "بدنا نحاسب" توجهاً "قضائياً ــ مؤسساتياً". أمّا المجموعات الأخرى، مثل «الشعب يريد» و"جايي التغيير" و"شباب 22 آب" فتوجه خطابها نحو العدالة الاجتماعية وقضايا النساء، وركز خطاب حملات المناطق والحركة البيئية على الجانب التقني من أزمة النفايات. وبرغم تنوع الخطابات، حصلت "طلعت ريحتكم" على "أوسع تغطية إعلامية، وبالتالي بقي خطابها مهيمناً إلى حد كبير على الإعلام والنقاشات العامة. ومن ناحية أخرى، اتبعت المجموعات الحزبية واليسارية شكلاً تنظيمياً مماثلاً لـ«طلعت ريحتكم»، ما حال، ربما، دون استقطابها الفئات التي تناصرها أيديولوجياً، أي الفئات المهمّشة والفقيرة".

السياسة بالصدفة:
تنظيم عفوي يستخدم خطاباً فضفاضاً وشعبوياً


توحي "السياسة بالصدفة" بغياب التنظيم وغياب القيادات، وهو ما أصرت عليه مجموعات الحراك في لعبة أتقنها الناشطون للتهرب من مسؤولية المحاسبة تارةً، وللتفرد بالقرارات تارة أخرى. يؤكد البحث أن لا مجموعات من دون تنظيم، وفي حالة الحراك اتخذ التنظيم شكل لجنتين شكلتهما «طلعت ريحتكم» و"بدنا نحاسب" هما «لجنة النواة الأساسية» و«لجنة المتطوعين» حيث تضم الأولى فعلياً "قيادات" الحراك، في حين تضم الثانية متطوعين يقدمون الدعم اللوجستي. من هنا، يُطرح تساؤل: كيف يصبح أي ناشط عضواً في اللجنة الأساسية أو في لجنة المتطوعين؟ الإجابات التي قدمتها المجموعتان توضح أسباب تراجع الناس لاحقاً، إذ عكست شعوراً بالدونية لدى المتطوعين والمتظاهرين الجدد. فقد أجاب أحد أعضاء "بدنا نحاسب" أنّ «طبيعة عملنا سرية، وبالتالي لا تسمح بتوسيع الاجتماعات"، في حين أتى جواب أحد أعضاء "طلعت ريحتكم" أنّ اللجنة كانت بحاجة إلى أشخاص "يتمتعون بالحدّ الأدنى من الوعي السياسي. لا يمكنك أن تأتي بأي كان وتطلبي منه أن يأخذ قراراً. في مكان ما يجب ضبط الأمور على هذا النحو". رداً على الإجابتين، تسأل كرباج من يحدد من لديه الوعي السياسي الكافي للمشاركة في اتخاذ القرار؟
غياب التحديد الواضح لهيكلية التنظيم سمح، وفق البحث، بخلق "مرونة" ساعدت في تنصل متخذي القرارات من مسؤولياتهم غالباً وفي فرض قراراتهم في الوقت نفسه، أي غيّبت هذه المرونة محاسبة المسؤولين.

«نحن» اولاد البيوت... «أنتم» الزعران

مع تركز عنف السلطة، نزل الكثير من الناس إلى التظاهرات بعدما ظهر خطاب الـ"نحن"، أي الشعب، والـ"أنتم"، أي السلطة، كما يرد في البحث. إلا أن الناس سرعان ما تراجعوا مع تحوّل الـ"نحن" إلى الناشطين والـ"أنتم" إلى الشعب من خلال خطاب أدان الناس الذين ينتمون إلى أحزاب، لينتقل الانقسام لاحقاً إلى "نحن" أولاد البيوت و"أنتم" الزعران، بعدما تم التخلي من قبل الحراك عن أولاد البيئات الفقيرة الذين وصفوا بالمندسين بطلب من الفئات الاجتماعية التي كانت تستقطبها المجموعات.
ساهم هذا الخطاب في إقصاء أولاد الفئات الفقيرة عن الحراك لمصلحة استقطاب الفئات المتوسطة، ليعود أبناء البيئات المتوسطة للانسحاب لاحقاً من الحراك لأسباب عدة، أبرزها العنف. بذلك لم تنجح "السياسة بالصدفة" في الحفاظ على الفئات المتوسطة ولا الفئات الفقيرة، جراء خطابها الفضفاض وغياب الرؤية.
بهذه الخطوة، خذل الحراك ناسه الفقراء الذين نزلوا ليدافعوا عنه بعدما رأوا "أولاد البيوت" يتعرضون للضرب. بات الفقراء المنتمون إلى أحزاب بلا حراك يعطيهم أملاً، وبلا أحزاب تعطيهم حماية وعمل بعدما نُبذوا في مناطقهم بسبب مشاركتهم في التظاهرات.