لأنه تصعب مخاطبة «جماعة» لبنانية من دون أن يُفسَّر الأمر بأنه رسائل من «جماعة» أخرى، أُفضّل، في حالتي هذه، أن يحسبني القارئ على الجماعة المنكوبة بالطائفيين والقائمين على أرواح الناس، وهي الجماعة التي لم يُتَح لها الوجود الشرعي بعد. وعندما يشتغل العقل، ليس من الضروري أنّ كل كلمة في نقد «جماعة» ما تتطلّب كلمة نقد لـ»جماعة» أخرى. علماً أنّ الانحياز، من ناحية علمية وسياسية، أمر متاح كلما كان العقل حاضراً.
يروي خبيث من سياسيي لبنان أنّ وليد جنبلاط سأل نبيه بري، منتصف تسعينيات القرن الماضي: ما بالك منهمك في أمور محلية صغيرة؟ اخرج من هذه العباءة. لقد صرت زعيم طائفة كبيرة، ورئيس مجلس نواب، والطريق مفتوح أمامك للعب دور يتجاوز حدود البلاد. اذهب وتعرّف أكثر إلى العالم في الخارج، ودع الأمور الأخرى لمساعديك. ويضيف الخبيث نفسه أنّ بري نظر إلى صديقه مبتسماً، ثم أجابه بحدّة: اسمع يا وليد، أنت، وأنت فقط، من يقدر أن يغيب مئة عام، وعندما تعود، تجد «جماعتك» في انتظارك. أما من هم مثلي، فلا يمكنهم أن يتغيبوا لأسبوع، إذ ليس من ضامن لبقاء هذا الكرسي!
منذ زمن بعيد، شكّلت «جماعة الدروز» في لبنان قوة رئيسية في إدارة لبنان الصغير، ثم لبنان الكبير. واحتلت، لعقود طويلة، مركز القرار الفعلي. بل ونجحت في أن تجمع حولها «جماعات لبنانية» أخرى، في سياق البحث عن مصالح إضافية ومواقع أفضل. ورغم كل التطورات، حافظت هذه الجماعة على موقعها الدائم في «مجلس الأمن» اللبناني، ممسكة بحق الفيتو الذي أتاح للعائلة الجنبلاطية حصاد غالبية الحصة المفترضة لهذه الجماعة داخل الدولة، ومن خلالها، كان النفوذ الأكبر داخل القطاع الخاص أيضاً. وكلما كان متاحاً لبيت المختارة أن يضعف البيوتات الأخرى، لم يكن يقصّر. ولولا الحماية المباشرة التي وفرها آل الأسد لآل أرسلان والداوود، ثم تكفّل حزب الله بالأمر في خلال العقد الأخير، لكانت الأمور على غير ما هي عليه اليوم.

لم يبق لـ «الجماعة» حيل في الاقتصاد والسياسة، أما حديث الديموغرافيا والقوة... فصار من التاريخ



لكن واقع الحال، أن موقع الزعامة الجنبلاطية في «مجلس الأمن» اللبناني تعرض لاهتزاز قوي في العقد الأخير. وبدل أن تعمد الجنبلاطية إلى إدخال تغييرات حقيقية، صار حديث الزعيم محصوراً بتوقع انقراض «الجماعة» من أصلها.
اليوم، يمكن كلَّ فرد من أبناء هذه «الجماعة» أن يخاطب الزعامة الجنبلاطية أولاً، وبقية الزعامات الدرزية، التقليدية منها والمحدثة، ليسأل الجميع عمّا حل به، وإلى أين وصل به المطاف:
كل من يحمل بطاقة انتساب إلى هذه «الجماعة»، يمكنه الدخول في منتدياتها كافة. من بيت الضيعة إلى بيت الحزب إلى بيت الزعيم، شرط إعلان الولاء. لكن الأطر المتصلة ببيت الزعيم لم يعد فيها ما ينفع. وليس في الهيكلية والشعارات والأدوار ما يحفز عاقلاً على الاقتراب. اللهم ما عدا العادة، وليس أقوى من العادة.
ومع الوقت، صارت كل الأطر تعمل بوحي من العقل الجمعي لهذه «الجماعة». فلا الحزب وسيلة يمكن استخدامها للوصول إلى الآخرين. ولا أندية الحوار أو جمعيات الشباب والصبايا أيضاً. وليس بين مبايعي الزعيم، اليوم، شخصية واحدة يمكنها ادعاء حيثية مستقلة، ولو جزئياً. وهذا سبب كافٍ لكي تفقد «الجماعة» المثقفين والأدباء والفنانين، وحتى الناشطين الذي يسعون إلى تغيير حقيقي في البلاد.
أما فئة الموظفين، من مديرين وضباط وقضاة وأساتذة، ومعهم رجال الأعمال، فهؤلاء يحملون بطاقة الانتساب هذه كورقة لتسهيل المهمة عند الزعيم أو أزلامه في الدولة، أو حيث يتطلب الأمر. وخيار التحرر متاح أمام أي فرد من هذه «الجماعة» يريد التخلي عن رغبة في دور بالسلطة، أو ترك مسامرة الطائفيين من أبناء «الجماعات» الأخرى. لكنه خيار مرهون بالهجرة الكاملة. وهي هجرة تتطلب مغادرة البيئة اجتماعياً وثقافياً وجغرافياً واقتصادياً أيضاً. إنه نوع من النفي الاختياري.
أما شرط النجاح المهني خارج قيود «الجماعة»، فهو أمر ممكن، للأفراد فقط، شرط أن يذهبوا إلى الصيد بعيداً جداً عن البيت، حيث لا مطاوع ينتظرهم، ولا قاطع طريق يريد الخوة، وحيث عقوبة الحرم تفقد معناها. وهو حال قليلين تحملوا وزر هذا الخيار، بينهم من انتسبوا إلى عقائد عابرة للطوائف والمناطق، فصاروا غرباء بين أهلهم، وبينهم من غادر البلاد كلها، فصار غريباً حيث حطّ الرحال.
والأصعب ما مرّت به «الجماعة» في العقد الأخير. حتى خسرت الكثير من عناصر قوتها. لم يعد عندها إغراء يجذب الخارج. وليس لديها قوة تخشاها الجماعات المنافسة، ولم تعد تملك قدرة على تعطيل الدولة وحياة الناس. لم يبق لـ «الجماعة» حَيل في الاقتصاد والسياسة، أما حديث الديموغرافيا والقوة... فصار من التاريخ. وحتى البطاقة الحمراء، ليس من سوق تصرف فيها، إلا بدعم ووصاية من آخرين. وهؤلاء، الآخرون، هم شركاء من «الجماعات اللبنانية» الأخرى، وباتوا كلهم، في نظر الزعيم، من «الجنس العاطل» الذي لا يؤتمن على عرض ولا على مال، فما العمل؟
الأزمة، اليوم، لها عنوان ونص واسم واحد، وهو عجز الزعيم عن تغيير بديهي حتى داخل «الجماعة». ربما، سيكون صادماً القول إن مبدأ التوريث لم يعد ممكناً، حتى عند «الجماعات» الصغيرة. وهو حال بيت المختارة. حيث مركز الأزمة، ومكمن الخلل.
ومن يرِد أن يسمع صوت العقل، فعليه مغادرة كل مربعات التوتر، وترك كل الأوهام بالقدرة على قلب الطاولة.
صحيح أنّ الزعيم لا يخضع للمساءلة من أبناء «الجماعة». وصحيح أنه أعطى نفسه الحق الحصري بنقد ذاته. لكن الصحيح، أكثر، هو أننا اليوم أمام خيار وحيد، لا ثانيَ ولا ثالثَ له: الإقرار بالفشل التام، والاستقالة!
غادر دون انتظار الجماهير تستجديك البقاء، واترك للناس نصف ما أخذته باسمهم، ودعهم، لمرة واحدة، يبحثون بوسائل جديدة عن سبل عيش مستدام خارج دائرة تضيق على من فيها يوماً بعد يوم.