القطاعات الاقتصادية التي تنشط فيها شركات مرتبطة بالكيانات السياسية المختلفة في لبنان، تولّد عدداً أقل من الوظائف من تلك التي لا تتسم بوجود هذا النوع من الشركات. على الرغم من أن المؤسسات المدعومة سياسياً تخلق وظائف بوتيرة أكبر من نظيراتها غير المحظية، وذلك نتيجة استفادتها من النظام الزبائني القائم.
هذه الحقيقة ليست خافية على مواطني لبنان وباحثيه، وحتّى على سياسييه، ولكن وفقاً لدراسة أعدّها إسحق ديوان وجمال إبراهيم حيدر من جامعة "هارفرد" الأميركية، أضحى بالإمكان تقويمه بالأرقام، وذلك بناءً على "نتائج تُظهر أنّ الشركات المرتبطة سياسياً تُستخدم لأهداف زبائنية في لبنان وتقوم على تبادل الخدمات بالوظائف الجديدة خدمةً لمناصري السياسيين" الذين يدعمونها.
الدراسة المعنونة "هل تخفض الزبائنية السياسية خلق الوظائف؟ أدلّة من لبنان"، تُقدّم خلاصة مهمّة وهي أنّ "وجود الشركات المرتبطة سياسياً في قطاع ما يخفض العدد الصافي للوظائف المولّدة في هذا القطاع، وذلك من خلال كبح نمو الشركات غير المرتبطة سياسياً على نحو حاد". والتفسير الأكثر منطقية لهذه الظاهرة، أن "الشركات المرتبطة سياسياً تفرض منافسة غير عادلة تؤذي منافسيها المباشرين وتخفض الحوافز المتاحة لهم للاستثمار والابتكار".

الشركات المدعومة سياسياً أسهمت بكبح خلق الوظائف
بنسبة 9.4 %


ويعتمد البحث على نتائج مسوحات أجريت على مستوى الشركات وعلى نتيجة الانتخابات النيابية لعام 2009؛ لكون هذا الاستحقاق يُحدّد مستويات النفوذ السياسي في البلاد وكيفية توزّعه.
وباستخدام مجموعة بيانات فريدة، يتوصل الباحثان إلى خلاصتين أساسيتين في ما يخصّ تأثير الزبائنية بسوق العمل في لبنان. الخلاصة الأولى هي أن الشركات المرتبطة سياسياً هي أكبر من نظيراتها، وتولّد عدداً أكبر من الوظائف، غير أنها في الوقت نفسه أقل إنتاجية وتدفع رواتب أعلى مقارنة بالشركات غير المدعومة سياسياً في قطاعاتها. أما الخلاصة الثانية، فهي أن الشركات المدعومة سياسياً تخفض العدد الإجمالي من الوظائف المولّدة في كلّ قطاع تنشط فيه، وذلك من خلال التأثير في نمو الشركات الأخرى، وذلك بمعدّل يظهر كالآتي: كلّ شركة مدعومة سياسياً تدخل إلى قطاع ما تخفض عدد الوظائف المولّدة فيه بنسبة معدّلها 6.8% سنوياً.
وكلما كان وقع التأثير السياسي أكبر على الشركات، كان سلبياً على القطاعات المختلفة وعلى الاقتصاد ككل. وكمثال مباشر على ذلك، تتوصل الدراسة إلى أنه في عام 2009، حين نُظّمت آخر دورة من الانتخابات النيابية عكست توافقاً بين أفرقاء الحكم على إدارة البلاد اقتصادياً وسياسياً، وصل التأثير السلبي للشركات المدعومة سياسياً في الاقتصاد إلى أوجه، وأسهمت بكبح خلق الوظائف بنسبة 9.4%.
ومن الخلاصات الأخرى للدراسة أنه كلما كانت الشركات المدعومة سياسياً كبيرة وقديمة في قطاع ما، ضعف النموّ في القطاع المعني، وهي خاصية تعوق التنافسية. في المقابل، تنعكس المعطيات في حالة الشركات غير المرتبطة سياسياً، بمعنى أنها تعزز التنافسية.
ويُمكن مقارنة النتائج التي توصلت إليها الدراسة في لبنان، بتلك المرصودة في مصر عبر دراسة مشابهة (ديوان وآخرون، 2016) خلصت إلى أن دخول شركة مدعومة سياسياً إلى قطاع اقتصادي لم يشهد سابقاً نوعاً كهذا من الزبائنية، يؤدّي إلى خفض خلق الوظائف في هذا القطاع بنسبة تراوح يبن 15% و25%. وربطاً، فإنه إذا كان هناك أكثر من ثلاث شركات مدعومة سياسياً في القطاع الاقتصادي، فإن ذلك يظهر تأثيراً سلبياً للزبائنية على سوق العمل أكبر من ذلك المسجّل في مصر.
تؤكّد هذه النتائج، يقول الباحثان، العرف الشعبي السائد عن التأثير الاقتصادي السلبي للفساد السياسي في لبنان، وبهذا تُسهم في إضفاء الطابع العلمي على مقولة أن "الشركات المدعومة سياسياً تُستخدم لأهداف زبائنية". وتخلص إلى برهان قوي، بأنه فيما يتميز لبنان ببيئة أعمال تقوم على "عقد الاتفاقات عوضاً عن تطبيق القوانين" على مستوى الشركات، فإن هذه الترتيبات تؤدي في الوقت نفسه إلى عرقلة النمو وخلق الوظائف على مستوى القطاعات بمجملها.
بالمضي قدماً في البحث في هذا المجال، يُشدّد الباحثان على أنّ دراسات مقبلة يُمكنها الكشف عن الآليات التي تُستخدم لإفادة الشركات المرتبطة سياسياً. "وفيما ليس لدينا الكثير لنطرحه في هذا الشأن، نظراً إلى عدم توافر البيانات، إلا أن البرهان الذي نُقدّمه يفترض أن آليات كهذه يُمكن تطويرها عبر الأدوات التقليدية المتوافرة لدى الوزارات".
وقد تتمثّل تلك الأدوات بتأمين العقود؛ تخصيص الرخص التعليمية للمدارس والجامعات والمستشفيات؛ رخص الاستيراد لمنتجات النفط والغاز؛ الرخص لتشغيل المقالع والمنتجعات البحرية بالإضافة إلى الحماية السوقية لشركات الاتصالات.
من الصعب صوغ سياسات عامة من وحي النتائج التي تتوصل إليها الدراسة، يقول معدّاها. يشرحان أنه عند أحد المستويات، قد يبدو أن السياسات التي تُعزّز المنافسة وآليات أفضل لفرض القانون بشكل يفرض واقعاً عادلاً بين الشركات تؤدي إلى نمو أكبر ووظائف أكثر مع الوقت، وذلك بالمقارنة مع سياسات أقل فعالية مثل تلك التي تدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة عبر القروض المدعومة مثلاً. ولكن، بمستويات أعمق من البحث، "لن يؤدي تعزيز التنافسية في النظام الاقتصادي إلى دعم التوازن السياسي الأوليغارشي القائم، وهناك احتمال أن تؤدي إلى الفوضى السياسية، إلا إذا اعتُمد نظام سياسي مختلف".
ولكن برغم كلّ هذه الصعوبات التي تظهر على طريق التغيير، فإن "فهم العلاقات القائمة بين المال والنفوذ يوفّر للمواطنين المطّلعين وضعية أفضل للتأثير في التغييرات التي يُمكنها أن تُحسن البيئة الاقتصادية والسياسية العامة".