جدّدت الهندسات المالية التي ينفذها مصرف لبنان نقاشاً قديماً يتناول اهداف السياسة النقدية. ففي الأصل تقوم هذه السياسة، كما حدّدها مصرف لبنان، على استقطاب الدولارات من الخارج من أجل تمويل الاستهلاك المحلّي. هذا الكلام يعني أن لبنان يستهلك سلعاً بقيمة 18مليار دولار ويصدّر بقيمة 3 مليارات دولار، أي إنه بحاجة إلى 15 مليار دولار لتمويل الفارق بين الاستيراد والتصدير. يحصل لبنان على حاجته من الدولارات بواسطة تحويلات المغتربين والاستثمارات المباشرة وأنواع أخرى من التدفقات الرأسمالية، أو بمعنى أوضح، يركّز جهوده على زيادة الودائع بالعملات الاجنبية.
هكذا حدّد مصرف لبنان هدفه الاول منذ مطلع التسعينيات بالحفاظ على التدفقات من الخارج، مكرّساً تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار كوسيلة من الوسائل لتحقيق هذه الهدف. وفي هذا الاطار ينفذ «هندساته»، وآخرها العمليات التي بدأ بتنفيذها منذ حزيران 2016 وتستمر إلى اليوم، والتي أدّت إلى خلق كمية كبيرة من النقد الدفتري تقدّر بنحو 32 ألف مليار ليرة، منها نحو 9000 مليار ليرة أرباحاً جُيّرت الى المصارف وكبار المودعين، وهم من أبرز المعترضين على إقرار سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع العام، علماً بأن كلفة الاخيرة لا تتجاوز الفي مليار ليرة، ويمكن تمويلها من الضرائب على الريوع.

عملية خلق النقد والسيولة متواصلة وتدفع مصرف
لبنان إلى امتصاصها مقابل جمود سلسلة الرتب والرواتب

انطلاقاً من هذه المفارقة، يُطرح سؤال: لماذا يُسمح لمصرف لبنان بخلق النقد لتمويل سياساته النقدية التي تشجّع الريوع، وليس مقبولاً فرض الضرائب على الريوع لتمويل حقوق نحو 200 ألف مستفيد من السلسلة؟
لقد بات معروفاً أن مصرف لبنان يقوم منذ حزيران الماضي بشراء سندات دين بالليرة تحملها المصارف في مقابل أن تقوم المصارف بشراء سندات دين بالدولار يحملها مصرف لبنان أو شهادات إيداع جديدة يصدرها. الهدف المعلن من هذه العمليات هو استقطاب المزيد من العملات الاجنبية لزيادة موجودات البنك المركزي منها، الا انها تدرّ أرباحاً للمشتركين فيها تبلغ وسطياً معدّل 39%، ويجري تمويل هذه الارباح عبر طبع العملة اللبنانية. اللافت أن هذه الهندسة لم تتوقف بعد، ما يعني أن عملية خلق النقد والسيولة متواصلة، وهي تدفع مصرف لبنان إلى امتصاصها من خلال إيداعها لديه أو الاكتتاب بشهادات إيداع لخمس سنوات بفائدة 5.5%.
في المقابل، جمّد النقاش في شأن سلسلة الرتب والرواتب، المطروحة منذ عام 2012، بحجّة كلفتها المرتفعة ومصادر تمويلها، إذ يتذرع المعترضون بأن تمويلها من الخزينة العامة غير متاح بسبب العجز والقلق من ارتفاع وتيرة الدين العام، فضلاً عن محاذير نقدية واسعة من جراء خلق النقد لتمويل الاستهلاك، ولكنهم يعترضون على أي اقتطاع ضريبي يطال الأرباح العقارية والفوائد المصرفية وأرباح الشركات كبديل من خلق النقد لتمويل السلسلة.
يرفض المعترضون على السلسلة مقارنتها بالهندسة المالية الجارية. يقرّ هؤلاء بأن تسديد كلفة الهندسة من ميزانية مصرف لبنان ينطوي على عملية طبع للنقد أو خلق للنقد. إلا أنهم يقللون من الأثر التضخمي لهذه العمليات ذات الحجم الهائل، في ظل لجوء مصرف لبنان إلى امتصاص السيولة التي يخلقها سريعاً. ويكررون أن ضخّ السيولة بالليرة في السوق سيؤدي حكماً إلى زيادة الطلب على الدولار، وبالتالي رفع سعر الفائدة.
للأسف استُعمل القلق النقدي لإطاحة السلسلة، ولكنه يُستعمل اليوم لتبرير الهندسة المالية. السياسيون عاجزون عن رؤية هذا الأمر وفهمه، تماماً كما هم عاجزون عن فهم الهندسات المالية وأثرها!