ثانياً وجود حزب صلب تصدى بقوة لكل المحاولات الآيلة إلى انتخاب أيٍّ كان رئيساً للجمهورية وتمسك بمرشحه الأول والأخير حتى النهاية. ثالثاً الانكسار الكامل لسعد الحريري وقبوله بتقديم كل التنازلات ليحفظ في المقابل ماء وجهه. وهذه جميعها لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى أو كل مرة لتأمين عدالة التمثيل الطائفيّ عبر انتخاب المرشح الأقوى في طائفته رئيساً للجمهورية. والحل؟ قانون انتخابات يعيد كل طائفة إلى حجمها التمثيليّ كما حدده الدستور.
عندها، يكفي الفريق المسيحيّ الأقوى أن يتحالف مع قوة وازنة أخرى لفرض أمر واقع نيابيّ يصعب تجاوزه. ولا شك في أن علاقة التيار الوطني الحر وتيار المستقبل وطيدة اليوم، وقد أمضى رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل ونادر الحريري نهاية الأسبوع الماضي سوياً على ارتفاع 2700 متر في منطقة كورشوفيل في جبال الألب الفرنسية، وسيسر تيار المستقبل بإعطاء العونيين والقوات بضعة مقاعد في عكار وطرابلس والشوف والبقاع الغربي لإبقاء قانون الستين. لكن الأمر لا يتعلق بالنسبة إلى الرئيس ميشال عون بمقعد بالزائد أو بالناقص. القضية قضية مبدأ. أساس الخلل في تطبيق اتفاق الطائف بدأ عام 1992 حين أقر قانون انتخابيّ مخالف للطائف، واستفادت السلطة من المقاطعة المسيحية لتحويل المناصفة النيابية المفترضة إلى مناصفة شكلية تقوم على توزيع المقاعد المخصصة للطوائف المسيحية على المرجعيات السياسية الدرزية والسنية والشيعية بنسبة أقلّ بكثير. ومنهجية الرئيس ميشال عون واضحة في عودته دائماً ــــ سواء في الصراع مع الإسرائيليّ أو في المشاكل المحلية ــــ إلى أصل المشكلة. والأصل هنا هو قانون الانتخابات. بعد عشر سنوات من حديث عون شبه اليوميّ عن وجوب تصحيح التمثيل، يريد الرئيس القول اليوم إن الأمر لم يكن يتعلق بشخصه، وهو لن يعتبر أن التمثيل صُحّح لمجرد أنه انتخب رئيساً. لا بد من إنجاز قانون انتخابيّ جديد يقول للمسيحيين إن المناصفة الحقيقية مضمونة في هذا البلد، أياً كان الرئيس، وسواء أكان حزب الله موجوداً ومنتصراً أم لا. علماً بأن إلقاء نظرة سريعة على غالبية الدوائر الانتخابية تبين أن التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية مدعومين من رئاسة الجمهورية وعدة حلفاء قادران على حصد الكثير الكثير من المقاعد النيابية، ولديهما من القوة ما يكفيهم لإجراء مقايضة كبرى مع الحريري. لكن الأمر كما يؤكد أحد النواب العونيين يتجاوز هذه التفاصيل كلها. يريد الرئيس ميشال عون في مطلع عهده إحداث تلك الصدمة الإيجابية التي تؤمن توازناً طائفياً طويل الأمد. آن أوان القول للنائب وليد جنبلاط إن عقدة الذنب السورية تجاهه دفعت إلى نفخه بواسطة قوانين الانتخاب، لكن لا بدّ أن يعود إلى الحجم الطائفيّ الذي ارتضاه لنفسه. ولا بدّ من القول لتيار المستقبل إن الفرصة التي حصل عليها لبناء حيثية وسط الناخبين المسيحيين كانت استثنائية بكل ما للكلمة من معنى، وهي طالت ربع قرن كامل، وآن أوان اختبار هادي حبيش وفريد مكاري وميشال المر وبطرس حرب وفارس سعيد وعاطف مجدلاني وغيرهم ممن استنزفوا خيرات الحريري. فقانون الانتخاب سيعطي هؤلاء في نهاية الأمر فرصة متكافئة وعادلة لإثبات حجمهم، علماً بأنهم هم الذين كانوا في السلطة واستفادوا من خيراتها طوال العقدين الماضيين، ولا بدّ أن يشعروا بالتالي بأنهم في موقع القوة لا الضعف.
أمضى باسيل ونادر الحريري نهاية الأسبوع الماضي سوياً في جبال الألب الفرنسية
وفي العقل العونيّ تتجاوز أهمية قانون الانتخابات تصحيح التمثيل الطائفي فقط. فحلّ الكثير من الأزمات اليومية يمرّ بقانون الانتخاب، يقول أحد نواب العونيين، لأن باصات النظام الأكثري سمحت بوصول نواب لا يلتفتون أربع سنوات إلى ناخبيهم، فيما سيكون النواب في أي قانون جديد أكثر حرصاً على خدمة ناخبيهم. كذلك دفع النظام الأكثري المرشحين دائماً إلى مزايدة بعضهم على بعض في استرضاء الناخبين الذين ينتمون إلى الطائفة الأكبر في الدائرة الانتخابية. أما النسبية، فستدفع المرشحين إلى التفكير في كل صوت دون استثناء، مع كل ما يستتبع ذلك من تهذيب للخطاب المذهبيّ. إضافة طبعاً إلى أن هامش وصول المجموعات السياسية المهمشة يكبر مع النسبية، أياً كانت الدوائر وشكل التحالفات.
في النتيجة، ما بدأه القصر الجمهوريّ على نحو علنيّ وواضح سيأخذ مداه في الأيام القليلة المقبلة. من وافقوا عون القول إن الفراغ في رئاسة الجمهورية أفضل من رئيس جمهورية فارغ، يوافقونه القول أيضاً إن الفراغ النيابيّ أفضل من مواصلة التمديد للمجلس النيابي الحاليّ، سواء بقانون معجل مكرر أو عبر الانتخابات. الرئيس يلتزم خطاب القسم؛ لا بدّ من قانون انتخابيّ جديد، تكون النسبية عموده الفقريّ.