يقاس تلوث الهواء بحسب نسبة تركز ثاني أوكسيد الكبريت (SO2) وثاني أوكسيد النيتروجين (NO2) وغيرها من الغازات والمركبات الكيميائية الموجودة في الهواء، بالإضافة إلى نسبة الجسيمات (particulates) الصغيرة غير المرئية للعين المجردة. وتكمن خطورة المادتين الأوليين في تفاعلاتهما الكيميائية مع جسم الإنسان بحال تنفسهما بكميات مرتفعة مع الهواء. أما الجسيمات فهي تتسلل إلى داخل الرئتين والمجاري التنفسية بسبب صغر حجمها وعدم قدرة دفاعات الجهاز التنفسي الطبيعية على صد طريقها، فتتجمع داخل المجاري الهوائية الدقيقة تدريجياً مما يؤدي إلى تضييقها.
توجد العديد من الملوثات الأخرى والتي يمكن أن تكون أقوى تأثيراً على الإنسان، إلا أن التركيز ينصب بشكل رئيسي على هذه المكونات إلى جانب ثاني أوكسيد الكربون (CO2) بسبب ارتفاع معدلات انتشارها بشكل صاروخي خلال العقود الأخيرة. هذه الانبعاثات لها تأثيرها أيضاً في عملية الاحتباس الحراري، إلا أن البحث هنا يطال فقط التأثيرات الصحية المباشرة الناتجة من تلوث الهواء.
تعتبر عملية الاحتراق الداخلي في المحركات من المصادر الأساسية لهذه المركبات الكيميائية خاصة من محركات الديزل (المازوت). ومع انتشار السيارات ووسائل النقل في المجتمعات الاستهلاكية وذات المدخول المتوسط وما فوق، تتراكم هذه الانبعاثات وتسجل كل عام معدلات أعلى من سابقه، ومعه ترتفع نسب الأمراض.

الأمراض
التنفسية ليست قدراً لأبناء المدن


لندن تدق ناقوس الخطر

التلوث مشكلة مستدامة في عاصمة الضباب التي سجلت مع مطلع العام الحالي أرقاماً قياسية جديدة في نسب تلوث الهواء. فوفقاً لقوانين البيئة الخاصة بالاتحاد الأوروبي وكذلك وفقاً للمعايير البريطانية، يجب أن لا تتخطى نسبة انتشار ثاني أوكسيد النيتروجين 200 ميكروغرام في المتر المكعب 18 مرة سنوياً. ويجرى قياس هذه النسبة وتسجيلها كل ساعة. إلا أن المفاجأة كانت لهذا العام أن إحدى ضواحي جنوب لندن كسرت هذا المعدل 18 مرة في القياسات التي أجريت خلال أول أسبوعين فقط من العام، وهو رقم قياسي جديد على مستوى كل القارة الأوروبية مع بقاء 350 يوماً من التسجيلات التي ستجرى كل ساعة. أن تستنفذ المعدلات السنوية القصوى لقياسات التلوث في أسبوعين هو ناقوس خطر دفع السلطات المعنية إلى الإعلان عن إجراءات بيئية قد تساعد في تخفيض هذه النسب خاصة مع تسجيل 9000 حالة وفيات سنوية في المدينة التي يقطنها 12 مليون مقيم نتيجة أمراض تنفسية ناتجة من التلوث سنوياً، وتسجيل 2000 حالة عند الأطفال الذين نمت رئاتهم إلى أقل من الحجم الطبيعي.

مدن الصين والهند الأكثر تلوثاً

تشهد الصين والهند منذ ثلاثة عقود ثورةً صناعيةً كبيرةً تترافق مع تحسن سريع في الدخل الفردي ونشوء طبقة وسطى يبلغ تعدادها مئات الملايين من البشر الذين يمتلكون سيارات خاصة تجوب الشوارع وتملأ الطرقات ازدحاماً والسماء تلوثاً. ووفق دراسات حديثة تعتبر مدن بكين وشانغهاي ودلهي ومومباي من الأكثر تلوثاً في العالم على كافة المستويات وفي كل أنواع الغازات الملوثة المنتشرة في الهواء. ومن الانعكاسات الواضحة والمباشرة ارتفاع معدلات السرطان الذي أصبح السبب الأول للوفيات في الصين، بالإضافة إلى الأمراض التنفسية الأخرى المسببة للوفاة. وفيما تغلف المدن الأساسية في هاتين الدولتين سحب رمادية سامة بشكل مستمر، تظهر الدراسات أن 1% فقط من سكانها يحصلون على هواء صحي ونظيف بحسب المعايير العالمية المعتمدة. وتصل خطورة هذا الموضوع إلى الحد الذي يمكن اعتباره من أهم العوامل المؤثرة في مستقبل النمو الاقتصادي وفي الاستقرار الاجتماعي أيضاً. تسعى حكومات هذه الدول لمواجهة التفشي السريع للتلوث عبر تخفيض تدريجي في استعمال الفحم الحجري في توليد الكهرباء والديزل في النقل ووضع خطط طموحة لتأمين الكهرباء لمئات ملايين الناس من مصادر متجددة كالماء والشمس والهواء والطاقة النووية، لكنها تبقى على سباق سريع مع الوقت وسط استمرار نهضتها الصناعية والبشرية المولدة للانبعاثات.

عشرات المدن تمنع محركات الديزل

تعتبر محركات الديزل الأكثر تلويثاً بين محركات وسائل النقل التجارية المنتشرة. إلا أن كفاءة هذه المحركات وقوتها وقدرتها على تشغيل وسائل النقل الكبيرة كالباصات والشاحنات تجعلها واسعة الانتشار حتى على مستوى السيارات الصغيرة والمتوسطة. لكن مع الارتفاع الكبير في نسب التلوث ووصول العديد من المدن حول العالم إلى مستويات خطيرة منه، لجأت العشرات من هذه المدن إلى منع استخدام كل محركات الديزل داخل حدودها الإدارية، وهو ما قام به كل من مدينة مكسيكو ومدريد وأثينا وباريس التي تخطط إلى تحقيق هذا الهدف في عام 2025 كحدٍّ أقصى.

لبنان في قلب الأزمة

تكفي خلاصات دراسة الجامعة الأميركية في بيروت عام 2016 التي أظهرت أن نسبة «الديوكسين» المسرطن في الهواء في لبنان، والناتج من حرق النفايات قد ارتفعت 416 ضعفاً عن المعدل المسجل في عام 2014، ليظهر مدى التأثير الخطير الذي ولدته أزمة النفايات في تلوث الهواء في لبنان، وذلك إلى جانب التلوث الموجود الناجم عن الاكتظاظ والازدحام وكثرة السيارات وغياب أي رقابة بيئية موثوقة على وسائل النقل وعلى المصانع. والمشكلة الأبرز في لبنان أن لا دراسات كافية تجرى في هذا المجال كما هو الحال في الدول الأخرى لأسباب قد تكون مرتبطة بالإهمال السائد على كافة المستويات، أو لنية مبيتة لتخبئة الحقائق عن الرأي العام نتيجة سوء الواقع الذي وصلنا إليه. وفي حين تعاني مدن أخرى من ارتفاع معدل ملوث أو مركب كيميائي ما في هوائها، تجتمع في هواء بيروت باقة من الملوثات التي لم يكن ينقصها سوى «الديوكسين» كي تكتمل عائلة السموم الهوائية القاتلة.
ليست الحلول سريعة في معالجة هذه الأزمة لأنها ترتبط أولاً وأخيراً بنمط الحياة المجتمعي والحاجات الاقتصادية والحياتية للناس بشكل عام. إذ لا مناص للدول النامية من التوسع في صناعاتها، ولا قدرة على وقف التقدم الاجتماعي وانتشار وسائل النقل فيها أسوةً بالدول الكبرى الأكثر تلويثاً نسبياً. وهنا يكمن خلاف سياسي حقيقي حول الحلول العالمية أو على مستوى كل دولة. وإن كانت الدول الصاعدة اليوم أصبحت شريكة في تلويث البيئة، إلا أن الدول الغربية قد سبقتها بذلك بمئتي عام تقريباً، وهو ما يعني، بحسب الدول الصاعدة أن على الدول الأكبر تحمل مسؤولياتها أولاً وتخفيف انبعاثاتها بنسب أكبر منها لحين اكتمال نهضتها الصناعية والاجتماعية.
الأمراض التنفسية ليست قدراً لأبناء المدن لكن الحلول الأنسب لن تتحقق إلا بسياسات قائمة على الاستثمار في الخيارات المتاحة في الثورة التكنولوجية الناشئة التي يمكن أن تتوسع في مصادر الطاقة المتجددة حتى تصل خلال بضعة عقود إلى طاقة نظيفة صديقة للطبيعة. سوف تظهر نتائج هذا الرهان التاريخي، إن حصل، بدءاً من طاقة الاندماج النووي الثورية وصولاً إلى تخطي النفط كمصدر الوقود الرئيسي لقطاع النقل وهو رهان مرتبط أيضاً.