هل هذا ميشال عون؟ إنّه هو، وقد أصبح رئيساً للجمهوريّة. ها هو يُحاضر في ممثّلي البعثات الدبلوماسيّة في لبنان... عن «القضيّة الفلسطينيّة». عليك أن تستحضر ذكريات الحرب الأهليّة، خطابها ومحاورها، يمينها ويسارها، بداياتها ومآلاتها، فلا يبقى عندها الحدث عابراً. ما قاله عون، قبل ثلاثة أيّام، كان «حدثاً». القيمة الأهم في «محاضرته» أنّها ستُصبح وثيقة في أرشيف المستقبل. يقول عون: «القرار الأول للأمم المتحدة بشأن فلسطين أشعل حرباً، فيما القرارات الأخرى لم تنفّذ، فماذا فعلت المؤسسات الدوليّة حيال ذلك؟ لماذا لا تأخذ قراراً يُلزم إسرائيل بإعادة الأرض المتّفق عليها للفلسطينيين والاعتراف بهويّتهم؟ لماذا لا يزال الإسرائيليّون يَسلبون أرض الفلسطينيين حتى اليوم؟ لماذا يَهدمون منازلهم ويحرقون بساتينهم، ويَستملكون أرضهم ليبنوا المستوطنات؟ إنّ إسرائيل اليوم تستغلّ انشغال العالم بأزمات المنطقة وفشل جهود السلام، مِن أجل التمادي في سلب حقوق الفلسطينيين، والاستمرار في التعدّي على سيادة جيرانها وفرض أمر واقع». الاقتباسات المطوّلة، عادة، غير محبّذة، إلا أنّها تُصبح ضرورة في قضايا معيّنة. الخطاب الأخير لرئيس الجمهوريّة اللبنانيّة تنطبق عليه هذه الضرورة. سفراء العالم وممثلو البعثات الدبلوماسيّة، في القصر الجمهوري، كانوا يُدّونون ملاحظاتهم. كانت وجوههم تتمرجح بين وجه المُتكلّم وأوراقهم. محاضرهم ستُنقل إلى «كبارهم». ستدخل أرشيف خارجيّات دولهم، الكبرى والصغرى، على أنّ قائلها هو الرئيس اللبناني، المسيحي الوحيد في جامعة الدول العربيّة، ميشال عون.

هل سيُغيّر هذا في موازين الصراع الدولي؟ كلا. لكنّها للأرشيف. سيقرأها أحد ما، لاحقاً، في بلادنا وخارجها. سيبني عليها. ذات يوم قد يعود «السؤال الأخلاقي» إلى ساحة السجال العالمي، فلسفيّاً وسياسيّاً، فتكون لدينا وثيقة.
بدا عون في أسئلته التي طرحها على العالم طفلاً كبيراً. يَسأل: «إن السلام كي يقوم يجب أن يرتكز على القانون والعدالة والمساواة والحريّة، فأين العالم اليوم مِن هذه القيم؟ أين المؤسسات الدوليّة التي يُفترض أن تكون هي مَن يحميها ويعمل على تطبيقها وترسيخها؟». هذه الأسئلة البديهيّة، التي لم تعد، بفعل تراكم ويلات العالم وزيفه، بديهيّة. لا بدّ مِن تعويم أسئلة الأصل بعدما علاها غبار العبث. عاد عون إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية، إلى يوم أُنشئت منظّمة الأمم المتحّدة، إلى مقاصدها الأصليّة في «حفظ السلم والأمن الدوليين» و»حلّ النزاعات الدوليّة وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي». هذا الجدل السياسي ــ الفكري الذي تثيره دول «غير عظمى» باستمرار، دول الجنوب والعالم الثالث، مرفقة طروحاتها الجديدة لإدارة العالم، إنّما بلا جدوى. يَسأل عون مُجدّداً: «لقد علّق العالم المستضعف آمالاً كباراً على هذه المؤسسة (الأمم المتّحدة) ومثيلاتها، لمساعدته على التحرّر وحمايته مِن طغيان القوى التي تحاول السيطرة عليه، فماذا كانت النتيجة؟ هل استطاعت تلك المؤسسات أن تحترم ما التزمت به؟ فبالإضافة الى أرضنا المحتلّة، لنأخذ المشهد القريب جداً منّا، المُلاصق لحدودنا، وأعني المشهد الفلسطيني، ولبنان جدّ معنيّ به، لِما يَترك مِن تداعيات عليه منذ ما يقارب سبعة عقود ماضيّة». إذاً، لبنان معني بفلسطين، جدّاً، وهذه يُقرّها الرئيس اللبناني على مسمع سفراء العالم. المسألة أبعد مِن مجرّد تعاطف إنساني. سيبدو عون، في الآتي مِن خطابه، خبيراً في القضيّة الفلسطينيّة أكثر مِن كثير مِن «أهل بيتها». بدا السفير الإيراني بين الحاضرين مرتاحاً. ربّما ودّ لو يقف هاتفاً «الموت لإسرائيل»... لولا «البروتوكول».

ما قاله عون موقف شجاع حجَبَه خطاب «البلاهة» في سوق السياسة اليوميّة

ثمّ يستفيض عون شارحاً: «لقد قُسّمت فلسطين بقرار دولي مِن الأمم المتحدة يحمل الرقم 181 إلى قسمين، قسمٌ لليهود وآخر للعرب، ولكن الإسرائيليين لم يكتفوا بذلك، بل طمعوا بالجزء العربي أيضاً، فطردوا الفلسطينيين منه بعد حرب تطهير عرقيّ، وثّقها الكاتب الإسرائيلي ايلان بابيه في كتابه حرب التطهير العرقي». ما الذي يَدفع الرئيس اللبناني، الماروني، الذي عُدّ يوماً خصماً لسوريا الممانعة ومحورها، وهو الآن في بداية عهده، إلى التصويب على «إسرائيل» بهذه الحدّة؟ تصويب شامل، في السياسة و»الأكاديميا» والأخلاق. بالتأكيد، كثيرون يقولون اليوم مع أنفسهم: «لقد فهمنا هذا الرجل خطأ في السابق». مَن يتكلّم اليوم بعد عن فلسطين؟ قبل خطاب عون هذا في القصر الجمهوري، تحدّث عميد السلك الديبلوماسي المُعتمد لدى لبنان، السفير البابوي غابرييل كاتشيا، عن ضرورة السلام، مستشهداً برسالة للبابا فرنسيس عنوانها «اللاعنف: أسلوب سياسة مِن أجل السلام». وفي ما بدا تعقيباً على هذا الكلام، أو على هذا «المنطق» عموماً، في إطار جدل فكري ــ سياسي، قال عون: «لقد اعتمد الفلسطينيون في حينه (عام 1948) مبدأ اللاعنف، ولكن اللاعنف إذا ووجِه بالعنف المفرط مِن الجهة المقابلة، وبغضِّ نظرٍ يصل الى حدّ التشجيع مِن الجهات المراقبة، سينفجر في النهاية عنفاً دموياً لا ينتهي، كما حصل في فلسطين». لو كان عون رئيساً لفلسطين هل كان ليقول أكثر مِن هذا؟ سيختم خطابه، الوثيقة، قائلاً: «إذا أردتم السلام فعليكم أن تجدوا حلولاً لمشاكل المنطقة، لا تقوم على القوة، بل على العدالة التي ترفع الظلم وتعطي الحقوق لأصحابها. إذا أردتم السلام، فعليكم أن تطفئوا النار في مصادر اشتعالها، فالنار لا تنطفئ بنفسها طالما هناك حطب يوقد لها». ما سلف لا يندرج في خانة المدح المجاني لزعيم سياسي، إنّما إضاءة على خطاب شجاع، على موقف حجَبَه خطاب «البلاهة» في سوق السياسة اليوميّة في لبنان، ليعود بنا إلى أصل المآسي في المنطقة والعالم. ليعود بنا إلى مفاهيم عالم بائس أصبح، منذ زمن بعيد، بحاجة إلى تفكيك وفهم جديد.
الكاتب الإسرائيلي الذي ذكره عون، ايلان بابيه، صاحب كتاب «التطهير العرقي في فلسطين»، دفع ثمن تمرّده على قومه وخرج مطروداً مِن «أرض اللبن والعسل». صمّ «العالم الحرّ» وزعماء «الدول الكبرى» أسماعهم عن روايته التاريخيّة لما حصل، التي يَعرفونها جيّداً، لكن هذا لم يَجعل مؤرّخاً صادقاً يتراجع، فقال مُحاضراً بعد سنوات مِن الخارج: «هل ما زال العالم يصغي إلينا، نحن الذين نتكلّم عن فلسطين؟». هنا تظهر قيمة إضافيّة لزجّ عون بنفسه في هذه «المحرقة». حتماً قرأ الرئيس اللبناني مرثيّة الفلسطيني المطرود في «النكبة» مِن أرضه، طه محمد علي، التي افتتح بها بابيه كتابه: «نحن لم نبكِ ساعة الوداع، فلدينا، لم يكن وقت ولا دمع، لم يكن وداع. نحن لم نُدرِك لحظة الوداع، أنّه الوداع، فأنّى لنا البكاء!».