منذ حزيران الماضي، يدير حاكم مصرف لبنان واحدة من أكبر عمليات خلق النقد في لبنان وتحويله بوتيرة سريعة من «مال عام» إلى «مال خاص». ففي وقت قياسي، ضخ المصرف المركزي (وهو شخص من القانون العام) أرباحاً استثنائية ضخمة إلى المصارف وكبار المودعين، قدّرت حتى نهاية تشرين الأول الماضي بنحو 4.8 مليارات دولار، وفق ما تكشفه وثيقة رسمية، حصلت عليها «الأخبار»، مؤرّخة في 12 كانون الأول الماضي، وموجّهة من رئيس لجنة الرقابة على المصارف، سمير حمّود، إلى الحاكم، رياض سلامة. تتناول هذه الوثيقة المسرّبة نتائج العمليات التي نفّذها مصرف لبنان مع المصارف، في إطار ما سمّي «الهندسة المالية»، وهي تغطّي فترة 5 أشهر فقط (من أول حزيران حتى نهاية تشرين الأول 2016). هذه العمليات لا تزال متواصلة حتى الآن، وإن بوتيرة أبطأ، وأرباحها تحلّق يوماً بعد يوم، وقد تكون بلغت نحو 5.2 مليارات دولار، وربما أكثر، بحسب مصادر مطلعة.

توصف هذه العمليات في تعاميم مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف على أنها: «بيع أدوات مالية سيادية بالليرة اللبنانية وشراء، تلازماً، أدوات مالية بالعملات الأجنبية». عملياً، يجري الأمر على الشكل الآتي: يقوم مصرف لبنان بإعادة شراء سندات دين بالليرة من المصارف (أي يسترد شهادات إيداع صادرة عنه وسندات خزينة صادرة عن وزارة المال)، ويدفع سعراً لكل سند يبلغ 139% وسطياً من السعر الأصل (أي سعر أصل السند، مضافاً إليه نصف أرباح الفوائد التي كان سيحققها حتى استحقاقه)، وبذلك تحقق المصارف ربحاً فورياً بمعدل 39% وسطياً، وهو عائد مرتفع بكل المقاييس. في المقابل، تشتري المصارف سندات دين بالدولار (يوروبوندز وشهادات إيداع جديدة) بالقيمة نفسها لسندات الدين بالليرة التي استردها مصرف لبنان وتحتفظ بالربح الفوري المحقق.

حققت المصارف عائداً
وسطياً بنسبة 39% وهو عائد مرتفع بكل المقاييس


وبحسب الوثيقة المسربة، توزعت الأرباح المحققة (حتى تشرين الأول) بين 35 مصرفاً تجارياً محلياً، إلا أن 4 مصارف منها حصدت نحو 71% من مجمل هذه الأرباح، علماً بأن حصّة مصرفين فقط بلغت أكثر من 53%. وقد حقق بنك عوده وحده، وهو أكبر بنك في لبنان، نحو 1.6 مليار دولار، أي أكثر من ثلث الأرباح. واللافت أن الوثيقة تشير الى عمليات جرت لمصلحة كبار المودعين بقيمة 2.4 مليار دولار، حققت أرباحاً لهم بقيمة تتجاوز 555 مليون دولار، إذ لجأ بعض المصارف الى جذب الودائع بالدولار لتوظيفها في «الهندسة المالية» والاستفادة من أرباحها عبر إغراء المودعين بعائد مرتفع جداً (عمولة) بلغ 25% وسطياً، يدفع فوراً، بالإضافة الى الفائدة المترتبة على الوديعة. معظم هذا النوع من العمليات قام به بنك عوده، إلا أن المعلومات المتاحة للفترة ما بعد تشرين الأول (التي تغطيها الوثيقة) تفيد بأن بنك ميد نفّذ عمليات كبيرة مماثلة بعائد تجاوز 30%.
تفيد الوثيقة نفسها بأن المصارف باعت مصرف لبنان سندات دين بالليرة قيمتها (سعر الأصل) نحو 18 ألفاً و532 مليار ليرة (أو ما يعادل 12.3 مليار دولار) وتقاضت ثمنها (مع الربح) نحو 25 ألفاً و753 مليار ليرة (ما يعادل 17 مليار دولار)، وبالتالي حققت ربحاً فورياً بقيمة 7 آلاف و221 مليار ليرة (ما يعادل 4.8 مليارات دولار، منها نحو 555 مليون دولار للزبائن، ونحو 200 دولار للوحدات الخارجية التابعة). في المقابل، اشترت المصارف من مصرف لبنان سندات دين بالدولار بقيمة 12.3 مليار دولار، بمعدل عائد وسطي يبلغ نحو 6% سنوياً، ما يعني أن المصارف ستجني لاحقاً أرباحاً إضافية ناتجة من الاستثمار في سندات الدين بالدولار تتجاوز قيمتها 700 مليون دولار سنوياً.

العمليات لا تزال متواصلة حتى الآن، وإن بوتيرة أبطأ، وأرباحها تحلّق يوماً بعد يوم

ليس هذا فحسب، فالعملية التي أدّت الى زيادة مديونية الدولة (الحكومة ومصرف لبنان) دفعة واحدة بما لا يقل عن 10 مليارات دولار (إصدار مصرف لبنان شهادات الإيداع بالدولار جديدة)، خلّفت أيضاً سيولة إضافية بالليرة لدى المصارف يجري الآن امتصاصها بواسطة أدوات الدين العام مجدداً (يعني المزيد من الربح الإضافي للمصارف أيضاً والمزيد من الأعباء على الدولة)، وقد بدأت عملية الامتصاص بالفعل من خلال إيداع جزء من هذه السيولة لدى مصرف لبنان مؤقتاً، بعائد يبلغ 5% وسطياً، بانتظار إصدار المزيد من سندات الخزينة بالليرة لتمويل إنفاق الحكومة، على الرغم من أن حساب الدولة لدى مصرف لبنان يفيض حالياً بالديون غير المستعملة التي تسدد عليها الفوائد.
يبرر حاكم مصرف لبنان هذه العمليات بالحاجة إلى: «كسب الوقت نقدياً، وإبقاء وضع الليرة مستقراً (...) وتعزيز ميزانيات المصارف بما يكفي من الأموال لمواجهة متطلبات الرسملة المطلوبة منها حتى عام 2018» (رياض سلامة، الحياة، الثلاثاء ١٨ تشرين الأول ٢٠١٦). إلا أن حجم العمليات الضخمة وقيمة الأرباح المحققة منها، واستمرارها بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة الجديدة... يطرح علامات استفهام كثيرة عن الأهداف الحقيقية!

وثيقة









555 مليون دولار أرباح كبار المودعين

في ما يلي النص الحرفي للوثيقة الصادرة عن لجنة الرقابة على المصارف بتاريخ 12 كانون الأول 2016:

سعادة الحاكم

الموضوع: الفائض الناتج عن عمليات بيع أدوات مالية سيادية بالليرة اللبنانية وشراء، تلازماً، أدوات مالية بالعملات الأجنبية.
عطفاً على القرار الوسيط رقم 12290 تاريخ 25/6/2016، طلبت اللجنة بموجب عدة مذكرات تزويدها بتفاصيل العمليات المذكورة في الموضوع أعلاه منذ بداية العام 2016 ولغاية 31/10/2016. نورد في ما يلي ملخصاً حول هذه العمليات بحسب تصاريح المصارف:
- مجموع العمليات والفوائض المحققة: قام مصرف لبنان بشراء سندات خزينة لبنانية وشهادات إيداع إصدار مصرف لبنان من المصارف بقيمة 18.532 مليار ل.ل. بفائدة حسم بلغت صفر بالمئة. نتج عن تلك العمليات فائض بلغ 7.221 مليارات ل.ل. في مقابل ذلك، قامت المصارف بالاستثمار في سندات يوروبوندز لبنانية و/أو شهادات إيداع بالدولار الأميركي إصدار مصرف لبنان بالقيمة الاسمية ذاتها للأدوات المالية بالليرة اللبنانية التي تم بيعها لمصرف لبنان، أي بقيمة 12.377 مليار د.أ..
- العمليات لصالح الوحدات التابعة: بلغت العمليات لصالح وحدات بنك عوده ش.م.ل. التابعة حوالى 650 مليون د.أ. نتج عنها فائض لصالح تلك الوحدات بقيمة 206 ملايين د.أ.
- العمليات لصالح أطراف ثالثة: كذلك جرت بعض العمليات لصالح زبائن المصارف بقيمة 2.427 مليار د.أ. معظم هذه العمليات جرت عبر بنك عوده ش.م.ل. (2.411 مليار دولار)، علماً بأنه نتج عن هذه العمليات أرباح للأطراف الثالثة (Upfront commissions) بحوالى 550 مليون د.أ. تم تسديدها لهم فور تنفيذ تلك العمليات وبمعدل وسطي بلغ 25% من قيمة العملية بحسب إفادة المدير المالي للمصرف. تجدر الإشارة إلى أن آلية العمليات التي قام بها بنك عوده ش.م.ل. مع مصرف لبنان حصلت كما يأتي:
■ عبر استقطاب ودائع زبائن جديدة بالعملات الأجنبية (حوالى 1.6 مليار د.أ.) باستحقاق لغاية سنة واحدة لدى المصرف والذي قام بدوره بشراء شهادات إيداع طويلة الأجل إصدار مصرف لبنان استحقاق ما بين عامي 2022 و2029.
■ عبر بيع سندات سيادية لبنانية (يوروبوندز) بالدولار الأميركي من محفظة بنك عوده ش.م.ل. لصالح أطراف ثالثة (حوالى 800 مليون د.أ.).
- النسبة إلى مجموع القطاع: إن مجموع فائض المحقق لدى بنك عوده ش.م.ل.، بنك سوسيتيه جنرال في لبنان ش.م.ل.، بنك لبنان والمهجر ش.م.ل.، وبنك بيبلوس ش.م.ل.، بلغ حوالى 71% من مجموع الفائض المحقق لدى القطاع.
- النسبة إلى الأموال الخاصة: إن الفوائض المحققة لدى كل من بنك سوسيتيه جنرال في لبنان ش.م.ل. وبنك أنتركونتيننتال لبنان ش.م.ل. بلغت نسبة 173% ونسبة 110% على التوالي من القيمة الدفترية لحملة حقوق الأسهم العادية (Common Tier I Equity).
وتفضلوا بقبول الاحترام،
عن لجنة الرقابة على المصارف
الرئيس سمير سليم حمّود