ليس خبراً عادياً أن يُقدّم حزب القوات اللبنانية التعازي بوفاة رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني، ولا أن يواسي الوزير بيار أبو عاصي باسم رئيس حزبه سمير جعجع «الجمهورية الإسلامية الإيرانية والشعب الإيراني الصديق»، كما دوّن في سجل السفارة الإيرانية. فالقوات اللبنانية هي المتهم الأول باختطاف الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة عام 1982، يوم لم تكن الأصوات تعلو بعد متهمة إيران بدعم «حزب من الأحزاب (حزب الله) على حساب المصلحة الوطنية العليا»، كما قال جعجع قبل أيام. أسباب أخرى كانت ستحول قبل سنوات قليلة دون أن تقوم القوات بواجب العزاء.
قبل سنواتٍ أيضاً، لم يكن وزير الإعلام القواتي ملحم رياشي ليقبل المشاركة في لقاء يحضره الملحق الثقافي في السفارة الإيرانية الدكتور محمد مهدي شريعتمداري، حتى ولو شارك فيه بصفته الشخصية وكانت «مناسبة اجتماعية للتعارف وتبادل نظرة الطرفين العامة للأمور». وقد عُقد اللقاء قبل أقل من ستة أشهر في منزل الأمين العام للمؤتمر الدائم للفدرالية ألفرد رياشي، وحضره النائب السابق لرئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي.
وقبل سنة، حين قرّرت السعودية معاقبة الجيش عبر وقف المساعدات العسكرية بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وجدت من يُدوزن لها الإيقاع في الداخل. شنّ وقتها موقع القوات الإلكتروني، من ضمن الحملة الآذارية، حملةً على عرض إيران تسليح المؤسسة العسكرية، زاعماً أنّ ما تعرضه طهران على الجيش اللبناني «خردة»، لذلك «يجب على أبواق إيران أن تصحو من سباتها». كان ذلك قبل أن يُصرّح جعجع في الثامن من الشهر الجاري بأنه ليس «ضد أي مساعدة عسكرية إيرانية للدولة اللبنانية. فإن كنا نتلقى مساعدات من السعودية ودول الخليج وفرنسا وأميركا، فلماذا نرفضها من إيران؟ اللهم ألا تكون هذه المساعدات مشروطة بأي شيء».
الإيجابية القواتية في التعامل مع إيران تأتي كخطوة ثانية بعد أن بعثت معراب برسائل سرية وعلنية عديدة إلى حارة حريك، كان آخرها بعد انتخاب الرئيس ميشال عون، بقيت من دون ردود. القوات تنفي وجود الرسائل. لكن النائبة ستريدا جعجع «اعترفت» بلبنانية حزب الله، بعد أن كان «ممثل ولاية الفقيه في لبنان». تغنّى المسؤولون القواتيون بوزراء حزب الله الذين لم يدخلوا في دوامة الفساد، و»التشابه بين تنظيمي القوات وحزب الله». وُجّهت أسئلة عديدة لـ»الحزب» عن السبب الذي يجعله يحاور كلّ الأطراف السياسية، بمن فيهم حزب الكتائب، ويحول دون فتح قنوات اتصال مع القوات.

التقى رياشي والمستشار الثقافي للسفارة الإيرانية في «مناسبة اجتماعية»


رغبة القوات في وصل معراب بحارة حريك كانت أشبه بالصراخ في البرية، نظراً إلى تجاهل الطرف الثاني لها. إلى أن اعترف الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في أحد خطاباته بأنّ «القوات مكوّن مسيحي ووطني وازن». لم تكد القوات تفتح ذراعيها مرحّبة بكلمة الأمين العام، حتى عاجلها رئيس المجلس السياسي في حزب الله إبراهيم أمين السيد من بكركي بأنّ «الظروف في لبنان ستفرض نوعاً من التواصل، ونأمل أن يصل إلى مدى سياسي معين، ونحن منفتحون على هذا الموضوع»، رداً على سؤال. فهل انطلق التواصل الجدي في الخفاء؟
البداية من السببين «اللذين كانا يمنعان سابقاً أي حوار مع القوات»، تقول مصادر في 8 آذار. الأول هو «التاريخ الثقيل، ويتفرع منه العلاقة مع العدو الإسرائيلي والمجازر في الداخل وقضية الديبلوماسيين الإيرانيين». والثاني يتعلق بتموضع القوات إقليمياً «كرأس حربة للمشروع السعودي الذي يُعارض الحزب». ولكن نتيجة المعادلات الجديدة في البلد «يكون للقوى السياسية مقاربات مختلفة عن السابق». ولفهم طريقة عمل حزب الله «يجب مقاربة الأمور من منظارها الإقليمي. ففي ظلّ الأوضاع الراهنة يهمّ الحزب أن يُقلّص عدد خصومه في الداخل. وهو ذهب بعيداً إلى حدّ محاورة السلفيين، فما الذي يحول دون محاورته القوات، وخاصة بعد اقتراب القوات من خطّه عبر تبنّي ترشيح الجنرال ما سهّل الأمور؟».
التواصل مع القوات «لم ينقطع على الصعيدين الوزاري والنيابي»، تقول مصادر 8 آذار. إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الحوار قد انطلق، «من الممكن أن ينتج من المقاربات الجديدة أمر ما أو لا نصل إلى نتيجة. حتى الساعة لا شيء عملانياً». ولكن لماذا تبادل حزب الله الزيارات مع الكتائب وشُكلت لجنة لمتابعة العلاقات، والصيفي تتشارك التاريخ نفسه مع القوات؟ لا جواب واضحاً لدى المصادر سوى أنّ «الكتائب بادر إلى فتح قنوات الاتصال في عهد أمين الجميّل، ليتوقف الأمر بطلب من سامي الجميّل. ولكنهم بعد أن تبين لهم صدقية الحزب والتزامه مع عون، يرغبون في إعادة إحياء اللجنة. حالياً لا حوار لا مع القوات ولا مع الكتائب».
اعتراف نصرالله بوجود القوات كان مفاجئاً في معراب، لأنه «كان يتعمّد تجاهلنا». تقول مصادر القوات إنّ إيجابية حزب الله سبقتها «إشارات أرسلها جعجع. وبعد كلام إبراهيم أمين السيد لا يُمكن إلا أن نؤكد إرادة التلاقي، من دون أن نتجاهل الخلاف حول الرؤية الاستراتيجية». بحسب القوات «هناك قرار لدى الطرفين بتحييد المسائل الخلافية، من دون أن يعني أنّ أحداً تراجع عن مبادئه». ما تريده معراب أن «نلتقي في مساحة مشتركة، لأنه بذلك يُمكن بناء البلد. وغير صحيح أنّ السبب هو ربح مشروع على آخر في المنطقة». لكن مصادر في قوى 8 آذار، وأخرى في تيار المستقبل وفي التيار الوطني الحر، تؤكد أن سمير جعجع بات يدرك، منذ ما قبل إعلان دعمه وصول الجنرال عون إلى بعبدا، أن حزب الله ممر إلزامي لرئاسة الجمهورية، كما لأي مشروع ينبغي أن يحظى بتوافق وطني، ولو كان بمستوى الحصول على حقيبة سيادية. ولأجل ذلك، قرر الانفتاح على الحزب الذي لم ينهزم لا داخلياً ولا إقليمياً، وقوته تتعاظم يوماً بعد آخر.
تعتقد القوات أنّ حزب الله غيّر موقفه تجاهها بسبب «رؤيته الاستراتيجية ومصالحه، إضافة إلى الوضع الجديد الذي نتج من التفاهم مع العونيين ولا يُمكن أن يتجاوزه». هل تفصل القوات بين حزب الله العمل السياسي والحزب الذي يُشارك في الحرب السورية؟ «حزب الله هو واحد، ونأمل أن يرجع هذا الكلّ إلى المساحة الداخلية».
سابقاً، لم يكن جعجع يفوّت خطاباً لنصرالله من دون أي يرد عليه. لكنّه تخلّى عن عادته منذ تبنّيه ترشيح عون. قد لا يزال مُبكراً الحديث عن حوار بين الفريقين، إلا أنّ نتائجه بدأت تظهر باكراً، أبرزها تفريغ الخطاب السياسي للقوات من مضمونه. فهذا الخطاب كان قائماً على التجييش ضد حزب الله والتيار الوطني الحر. مع الأخير، اجتمعت القوات في إعلان للنوايا. ومع الحزب، بدأ التمهيد لحوار. عملياً، لم يبق للقوات من تعاديه... إلا حزب الكتائب!