يستعيد المفكّر السوري الطيب تيزيني مشهداً من خمسينيات القرن المنصرم، ليربطه بما يجري الآن في البلاد، معتبراً أن التأسيس للعنف والاعتقالات ولجم الحريّات، ليس جديداً أو طارئاً. هو بدأ مع مرحلة الوحدة السورية المصرية وما تلاها. «كنّا طلاباً في جامعة دمشق، حين بدأت الاعتقالات، والملاحقات، والأذى ... وأرى أن عبد الحميد السرّاج (رجل الأمن في مرحلة الوحدة)، هو المؤسّس التاريخي لما سيأتي لاحقاً، أقصد الدولة الأمنية».
ستلقي الحالة السورية الراهنة بثقلها منذ اللحظة الأولى على اللقاء. يرنّ هاتفه الخليوي. «زوجتي على الخط، تخبرني بأنّ مدينة حمص مشتعلة، وتنصحني بأن أبقى في دمشق، ريثما تهدأ الأحوال قليلاً». يرشف قهوته، وهو يراقب حركة الشارع من زجاج المقهى. «حين يُدمّر الداخل، تكثر الغربان، وتصبح البلاد قابلة للاستباحة».
لا يرى أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق حلّاً للمعضلة السورية إلا بأن تنتهي «الرهانات القسرية كي تتجنب البلاد استحقاقات كبرى، ومأساة عظيمة». نشأ صاحب «من التراث إلى الثورة» في مدينة حمص لأب قاضٍ ورجل دين عقلاني. كان شقيقه عبد الودود تيزيني صاحب مجلة «الينبوع» التي واكبت مشروع التنوير ومرحلة الاستقلال، قبل أن تحتجب قسرياً مع «مرحلة الوحدة والانقلابات العسكرية التي نعيشها إلى اليوم، بوقعٍ مختلف هنا وهناك، لكن السياق الأساسي هو ذاته».
دراسته الفلسفة في ألمانيا وضعته في قلب الأسئلة الجوهرية التي تتعلق بالتراث العربي والإسلامي، والحقائق المغيّبة بفعل القراءات الاستشراقية. انكبّ على مشروعه في إعادة قراءة منهجيّة للتراث، من وجهة نظر ماركسية، فكان كتابه «من التراث إلى الثورة». في مطالعاته اللاحقة، سيكتشف حلقةً حاسمة مفقودة في المفهوم الماركسي للثورة، هي الديموقراطية البرلمانية بعمقها الشعبي، بعيداً عن هيمنة الحزب الواحد. وهو الخطأ الفادح ذاته الذي وقعت فيه الأحزاب القومية، ومنها «حزب البعث»، «فخسرت الماركسية، وخسر الفكر القومي، وخسرنا المشروع الثقافي والسياسي السوري الذي كان يبشّر بعد الاستقلال بحياة برلمانية». هكذا انتبه الطيّب تيزيني خلال بحثه في أسئلة النهضة والتنوير، إلى مشكلة أخرى، يعتبرها «أمّ المصائب»، وهي مشكلة الفساد التي عالجها بعمق في أطروحته «من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني». «حين عدت من برلين إلى دمشق، في أوائل السبعينيات، وجدتُ مجتمعاً سورياً آخر، نخره الفساد، وقد قامت السلطة بإعادة بناء المجتمع وفقاً لهذه الرؤية التي تقوم على اقتصاد خراجي مافيوي أطاح الطبقة الوسطى، وهشّم القوانين، وأفسدَ النخب». من هذه النقطة على وجه التحديد، يدخل مفكّرنا إلى آلية الدولة الأمنية في مسعى لتفكيك جوهرها. يرى أنّ هدفها هو «تجفيف المجتمع من كلّ الرهانات المناهضة لفكرة الاستبداد، بقصد الاستئثار بالسلطة والثروة، والرأي العام، والحقيقة».
يختزل هذه المعادلة بمصطلح «الاستبداد الرباعي»، في مقابل «المجتمع المعرفي العالمي». أمّا المسافة الفاصلة بينهما فيسميها «العقم المعرفي». هذه الأفكار عالجها على نحوٍ شامل في كتابه «استكشاف أسئلة الفكر العربي الراهنة». ويفسّر تمرّد الجيل الشاب على هذه القيم بأنّ «هؤلاء شعروا بالإذلال نتيجة البطالة والإقصاء، والإهمال، فاختزلوا كلّ الطبقات والفئات، وأعلنوا عن ذواتهم على نحو باغتنا جميعاً، لذلك فنحن أمام خريطة فكرية جديدة، سبق إخراجها بيولوجياً من الساحة الثقافية والسياسية، والآن أتى دور الأبناء والأحفاد كي يبلوروا رهانات أخرى تطيح المسارات الثابتة».
نسأله: هل كنت يائساً قبل هبوب ريح الربيع العربي؟ يجيب: «في الواقع كنت مكابراً، لكنني فوجئت بما حدث، وقد طرح عليّ أسئلة كانت مطوية منذ زمنٍ طويل، وها أنذا أعيش ولادات مفتوحة». يتذكّر صاحب «بيان في النهضة والتنوير العربي» صورة الجامعة في خمسينيات القرن المنصرم وستينياته، حين كانت مركزاً للتظاهرات والاحتجاجات والتمرّد، وكيف استباحتها القبضة الأمنية، وأفسدت التعليم. «اليوم تهيمن مقولة أساسية في الجامعة لدى بعض أوساطها «ادفع أو ارفع»، فغابت المعايير العلمية، وانهارت الجامعة لمصلحة الدعارة الفكرية والمخدرات والفساد».
كان الطيّب تيزيني في مرحلة ما قبل الثورات العربية قد نبّه مراراً في كتاباته إلى «الحطام العربي» من جهة، وإلى جموح الجغرافيات الأخرى، مؤكداً على سؤال العولمة الذي طوى سؤال النهضة. «العولمة رفعت مشكلات العالم إلى أقصاها. إما أن تنجز ما عليك أن تنجزه الآن، وإلّا فلن تستطيع إنجازه غداً»، ويستدرك: «لكنّ الفكر مفتوح لمن يمتلك مفاتيحه. التاريخ لم يكن مغلقاً يوماً، ولن يكون لفوكوياما خبز في هذه الوليمة». بالطبع، سيحضر سؤال الإسلام السياسي في اهتمامات صاحب «النص القرآني وإشكالية البنية والقراءة»، بوصفه إحدى الإشكاليات التي تواجه المجتمع في هويته الحائرة. لكنّه لا يبدو متشائماً من حجم الفاتورة المرتقبة: «هناك إسلام رثّ غير محتمل، وآخر تنويري». يستعيد هنا وقائع لقاء جمعه أخيراً مع نساء إسلاميات في ريف دمشق حول مفهومه للإسلام، وإذا بإحداهن تقول: «كنّا في حيرة ونحن نستمع إلى فتاوى أصحاب اللحى، وأصحاب الإيديولوجيات الشمولية، والآن نكتشف حالة ثالثة في الإسلام، تُرَسّخ مفهوماً آخر، لم نألفه قبلاً، هو الإسلام المتسامح». ويضيف: «في الواقع، هذا ما أسعى إلى توضيحه في كتابي الذي سيصدر قريباً بعنوان «الأصولية بين الظلامية والتنوير»، في مواقف متعددة تفسّر اللغط الحاصل حول الإسلام والعلمانية».
يستشهد الطيب تيزيني بشكسبير أكثر من مرّة، ليفاجئنا بأنّه سافر في مطلع شبابه إلى لندن لدراسة أدب صاحب «هاملت». «ما أحوجنا إلى أسئلة شكسبير اليوم، نظراً إلى راهنيتها المفتوحة على الدوام»، يقول. لكنه سيغرق لاحقاً في أسئلة الفلسفة الألمانية، وصولاً إلى الفلسفة العربية، وسوف ينجز أطروحته بالألمانية بعنوان «الفلسفة العربية بين الاستشراق والحقائق المغيّبة». كتابه الأخير «التصوف العربي الإسلامي» مرآة أخرى لاهتماماته الفلسفية، وصورة استرجاعية لحلقات الذكر الصوفية التي كان يشهدها في حواري حمص. يقول ضاحكاً: «عبارة «مدد ... مدد» التي كان يرددها الصوفيون، تحضر الآن بوصفها طاقة للفرج. نعم لقد أتى المدد والفرج أخيراً».



5 تواريخ

1934
الولادة في حمص (سوريا)

1973
أنهى دراسته العليا
في الفلسفة ـــ جامعة برلين

1998
اختارته مؤسسة conlordia الألمانية
واحداً من بين 100 فيلسوف في العالم خلال القرن العشرين

2004
أسهم في تأسيس المنظمة السورية لحقوق الإنسان «سواسية»

2011
ينتظر صدور كتابه
«الأصوليّة بين الظلاميّة والتنوير»
(الدار السوريّة اللبنانيّة ـــ دمشق)