بينما كانت نسمة باردة تغزل حول دمشق، منذرةً السوريين بشتاء قاسٍ، جلسنا ننتظر الموسيقار نوري رحيباني في بهو أحد فنادق عاصمة الأمويين. دخل رجل سبعيني يعتمر قبعةً سوداء. هذا هو المايسترو؟ طائرته ستقلّه بعد ساعات إلى ألمانيا، حيث يقيم منذ نصف قرن. زار دمشق ليعدّل مزاج جمهورها بحفلتين أحياهما على مسرح «دار الأوبرا» أخيراً، وسط حالة من الترقب والخوف على مستقبل البلاد. ما هي إلّا لحظات، حتى يكسر رحيباني جليد اللقاء الأول. بدماثة تليق بفنان عتيق، يعطينا فرصة مشاركته في أدقّ تفاصيل حياته، وأكثرها تأثيراً في مسيرته الغنية. تتداعى الذاكرة، فتغرق عيناه بالدموع حين يتذكّر بيت أهله القديم. كانت والدته عازفة بيانو قبل أن تتزوج من والده، وهذه حالة نادرة في عشرينيات القرن الماضي. أما والده فقد كان قاضياً معروفاً، يستقدم فرقة «إذاعة دمشق» إلى بيته، بقيادة وفيق شكري، لتعزف حتى ساعات الصباح الأولى. هكذا، زاد ولعه منذ الصغر بالموسيقى، قبل أن يتعلم العزف على الماندولين، آلته الأولى في فرقة مدرسة التجهيز التي كان يقودها الراحل مصطفى الصواف. ذات يوم، شاهد الطفل فيلماً عن شوبان، فخرج مذهولاً ترافقه صور الموسيقي الشهير... حاول ليلتها النوم، فلم يستطع. مثل حلمه الوردي بأن يصير موسيقياً شهيراً أمامه. بعد تلك الليلة الطويلة، قرَّر أن يمتهن الموسيقى، ويسير نحو حلمه بخطىً واثقة.
كانت محاولاته الأولى في التلحين مع زميله عازف الغيتار هاني شموط: «منذ بداياتي، كنت أتعمّق في الموسيقى، وأجرّب بطريقة تقارب الاحتراف. اليوم أشعر بحنين إلى تلك المحاولات، وقد أبحث عنها لأعيد تقديمها في إحدى الحفلات بتوزيع جديد».
في الثامنة عشرة، بينما كان زملاؤه ينكبُّون على حفظ المناهج المدرسية، كان نوري يستغل أوقات فراغه ليحضر الحفلات الموسيقية. بعد اجتيازه المرحلة الثانوية، لم يتمكن من دراسة الموسيقى، فاختار الحقوق، لكنّه لم يحضر الصفوف. كان يمضي وقته في قاعة الموسيقى، يعزف على البيانو مع فرقة الجامعة بقيادة ياسر المالح وبرفقة دريد لحام الذي كان يعزف على الأكورديون مع الفرقة نفسها، قبل أن يتوجّه إلى التمثيل. لم يطل انتظاره لحلم طفولته. أعلنَت «وزارة المعارف» (الثقافة حالياً) عن منح دراسية إلى مصر لدراسة الموسيقى، فتقدّم إليها فوراً، وحاز المرتبة الأولى. غير أن أرض الكنانة لم تكن هدف الشاب المندفع. تأخر قليلاً في تقديم أوراقه إلى حين وصلت منح دراسية إضافيّة إلى ألمانيا، لكنّها منحت لمن حازوا المراتب الأخيرة. هكذا اضطر إلى مبادلة المقاعد بينه وبين شابة كان السفر إلى مصر يناسبها أكثر، و... ركب الطائرة نحو بلاد بيتهوفن وباخ.
درس التلحين على البيانو في ألمانيا الديموقراطية، وتحديداً في «المعهد العالي للموسيقى» في مدينة لايبزغ. لكنّ دراسته لم تخوّله بلوغ حلمه بقيادة أوركسترا. لهذا كان يحضر الحفلات الموسيقية يومياً، ويجلس ليراقب حركات قائد الأوركسترا فيزيد شغفه بهذه المهنة. بعد إنهائه دراسة الموسيقى في دار أوبرا في مدينة فرايبورغ، التحق بها عازف بيانو ومرافقاً للكورال وقائداً مساعداً. شاءت الظروف أن يغيّب المرض قائد الأوركسترا عن الأوبريت، فاستعانت به مديرة الدار، وسألته إن كان يستطيع أخذ مكانه، وإنقاذ الموقف. شعر الموسيقي السوري أنّ حلمه صار وشيكاً، وما عليه سوى اغتنام الفرصة. غامر واعتلى المسرح وقاد الأوركسترا في أوبريت «لا كريول» لجاك أوفنباخ بنجاح. «تحقق حلم حياتي، وبرهنت على أنني قادر على قيادة الأوركسترا من دون دراسة، حتى إنّ زملائي أشادوا بأول حفلتين لي، رغم أنني كنت أقود بطريقة عفوية للغاية».
في ذلك الوقت، قرّرت مديرة دار الأوبرا إرساله إلى مدينة درسدن ليكمل دراسته في قيادة الأوركسترا. في ألمانيا وجد فرصته بعد التخرّج مباشرة. تسلّم قيادة الأوركسترا في مدينة رايشنباخ في جنوب ألمانيا، وهناك أتيحت له الفرصة لتطبيق كل ما تعلمه نظرياً في معاهد الموسيقى. كانت مدينة فايمر، عاصمة الثقافة الألمانية، تحتض حفلات صيفية لموسيقيين. هناك صقل معرفته، والتقى بموسيقيين أثّروا فيه.
لم يقتصر نشاط رحيباني في التلحين وقيادة الأوركسترا على ألمانيا فقط، بل زار سان بطرسبرغ وستالينغراد، حتى كرّمته جمهورية ألمانيا الاتحادية بوسام الاستحقاق الجمهوري. استقر نهائياً في بلد يكرّم الموسيقيين ويمنحهم حقوقاً مادية تفوق ما تمنحه لأهم المسؤولين. نقل روح الموسيقى لأسرته، وخصوصاً ابنته نورا التي بدأت تهتم بالبيانو منذ الخامسة. علّمها العزف حتى صارت زميلةً له، وموسيقية محترفة ومعروفة، ورافقته إلى دمشق أخيراً. «اكتشفت جمال بلاد والدها، والتقت بجمهور ذواق، وتعرفت إلى أهلها، ولمست زيف بعض الوسائل الإعلامية في تغطيتها للأزمة السورية».
استعمل المايسترو السوري العديد من الألحان الفولكلورية العربية، وطوّرها بشكل سيمفوني، وقدمها في حفلات عدة أمام الجمهور الألماني. كذلك أعاد توزيع بعض الأغنيات العربية بشكل أوركسترالي ضخم، عندما قاد الأوركسترا السورية في حفلتيه الأخيرتين، ومن بينها أغنيات تراثية وشعبية سورية، منها «بلدي يا بلدي» و«يا غزيل»، إضافةً إلى أغانٍ لأسمهان وفريد الأطرش. وقد سبق لرحيباني أن أسهم في كتابة الموسيقى التصويرية للعديد من الأعمال الفنية السورية، منها «يوميات مجنون» لفواز الساجر، وفيلم «أبطال يولدون مرتين» لصلاح دهني. الموسيقي الذي تأثّر في صباه بمقطوعة كارمينا بورانا، التقى بمؤلّفها كارل أورف عام 1980، وتعاون معه على إعادة توزيع بعض ألحانه. لكن القدر لم يحالفه كي يستمر التعاون معه طويلاً، إذ توفي الملحن الألماني الشهير عام
1982.
عند دعوته إلى سوريا أخيراً، أراد اصطحاب مهندس صوت ألماني.. لكنّ الأخير تخوّف من الأوضاع في البلاد، بعدما مازحه المايسترو قائلاً: «لو عثرت عليك السلطات السورية، فستضعك في الانفراد، وسأتوسط لديهم حتى يسجنوني معك لأسلّيك». المهندس الألماني حضر الحفلتين، وسعد بزيارة دمشق، يخبرنا رحيباني، قبل أن يدلي برأيه في أزمة بلده السياسية: «أنا حزين على كل قطرة دم سالت على الأراضي السورية، فبلدي وشعبي لا يستحقّان ما يحصل لهما. لكن على الجميع أن يعي أن أميركا تضمر لنا الشر، وتحاول أن تستغلّ كل الظروف لاقتلاع العائق الذي يقف في طريقها، أي الواقف إلى جانب المقاومة. لذلك علينا أن ننتبه إلى المؤامرة والإصلاحات الموعودة من جهة، وكذلك إلى الضحايا الأبرياء الذين يتزايدون يومياً من جهة أخرى». يرشف آخر نقطة قهوة في فنجانه، ويودعنا بعد جلسة خاطفة ليلحق بطائرته، على أمل أن يعود في نيسان (أبريل) المقبل لإحياء حفلة جديدة بعنوان «الكونشيرتو الثنائي» في دار الأوبرا السوريّة.



5 تواريخ

1939
الولادة في دمشق

1959
سافر إلى ألمانيا لدراسة الموسيقى

1973
حصل على دبلوم في قيادة الأوركسترا من مدينة درسدن، وعمل قائداً أوّل للأوركسترا السمفونية في مدينة رايشنباخ

2002
قاد الفرقة السمفونية الوطنية السورية لأول مرة

2011
أحيا حفلتين على خشبة دار الأوبرا في دمشق، ويستعد لتقديم حفلة أخرى في نيسان (أبريل) المقبل