لم يستجب خالد فهمي لنصائح الأصدقاء. عندما قرر العودة للاستقرار في القاهرة بعد عشرين عاماً قضاها أستاذاً في العديد من الجامعات العالمية، قال له كثيرون إنّه سيندم على قراره، وخصوصاً أنّ الأحوال كانت تتجه إلى توريث السلطة مع مزيد من القمع، لكنّ المؤرخ الذي كان ينظر إلى المستقبل، رفض النصيحة: «ثمة شيء يحدث في مصر الآن»، لكنه لم يتوقع أنّ ما سيحدث سيكون ثورة. «كنت أشعر بأن هذا العام سوف يكون حاسماً. انتخابات الرئاسة في نهاية العام، وكان لديّ إحساس بأنّ مبارك لن يترشّح، وأردت أن أكون موجوداً في هذه اللحظة الانتقالية». في كل زيارات خالد السابقة، كان يشعر بأنّ ثمة «جنيناً يتحرك في رحم مصر وتاريخها». في المرة الأخيرة، أخبرته شقيقته «مصر ملكنا، تُختطف منا، ولا بد من أن نتحرك لاستردادها». وفي كل الحوارات أو الإبداعات الشابة التي كان يتابعها، كان يشعر بأنّ شيئاً ما سيحدث.
صاحب «كل رجال الباشا»، لم يدرس التاريخ في الجامعة، بل الاقتصاد. هو لا يرى أنّ انتقاله إلى التاريخ بمثابة «تحول» لأنّ «طبيعة التربية الأكاديمية في الجامعة الأميركية تسمح بالانفتاح على علوم إنسانية عدة. لذا اشتغلت في الماجسيتر على تجربة الانفتاح في مصر»، ثم لفتت نظره إحدى أستاذاته إلى العمل في رسالة الدكتوراة حول موضوع: «لماذا تأخرنا وتقدّم الغرب؟». في تلك الفترة، قُبل في «جامعة أوكسفورد»، حيث التقى أستاذه روجر أوين، الذي رأى أنّ خالد يطرح سؤال الحداثة على نحو خاطئ: «أنت تقيس تقدّم الغرب بتأخر الشرق. وهذا قياس خاطئ» أخبره.
أوكسفورد مدينة مكتبات. هناك بدأ القراءة بكثافة. الدراسة ليست فقط أن تذهب لمتابعة محاضرات الأساتذة، بل للقراءة والبحث بنفسك والمعرفة. يقول: «لا شيء في النهاية يعوّض المكتبة». هل كان لديه مكتبة خاصة عندما كان صغيراً؟ يجيب: «أنا تحديداً ضد هذه الفكرة. أتحدث عن مكتبة عامة أو جامعية. لقد تأسست في مكتبة الجامعة، وكنت أعمل فيها أثناء دراستي وبعد تخرجي. هذه المكتبات ذات مفعول السحر. هنا، يحدث التفاعل بينك وبين النص. إنّها أشبه بالصومعة أو المحراب، كما أنك تشاهد الناس يجلسون إلى جوارك، فتشعر بشيء سحري لا تدري كنهه لكنّك تعيشه».
في تلك الفترة، بدأ التعرّف إلى أساتذته: ميشال فوكو، وإدوارد سعيد، وجاك دريدا، وتيموثي ميتشيل. بدرجات وبأخرى، كان الهمّ الذي يجمع هؤلاء هو علاقات السلطة والقوة. وفي الوقت ذاته، كان قد بدأ الاطلاع على وثائق عصر محمد علي باشا، فاختار أن تكون دراسته للدكتوراه عن جنود الباشا لا الباشا نفسه. صدرت الرسالة يومها تحت عنوان «كل رجال الباشا» (دار الشروق) وترجمها شريف يونس. في الكتاب، كان خالد مهموماً بالبحث عن إجابة عن هذا السؤال: هل يمكن كتابة تاريخ محمد علي من وجهة نظر جنوده لا قادته وضباطه؟ كانت مهمته «أن ألفت النظر إلى أهمية الفرد العادي الذي لا ينتمي إلى الصفوة في صنع التاريخ». دراسات صاحب «الجسد والحداثة» كانت إذاً «طلقات» موجهة إلى قلب الروايات الرسمية للتاريخ. التاريخ بالنسبة إليه هو حكاية البشر العاديين ومعاناتهم التي صمت عنها الخطاب التقليدي.
وهذا المنهج سار عليه أيضاً في كتابه الثاني «الجسد والحداثة». لم يتطرق إلى آراء الأطباء والصيادلة والحكماء في طبيعة المرض وطرق علاجه، أو إلى قراءة كتابات الفقهاء والقضاة والمحامين، بل حاول تلمّس مواقف عامة الناس أو الأهالي، مما كان يشهده مجتمعهم من تغييرات كبيرة، ومما كانت تتعرض له أجسادهم من انتهاكات على أيدي الدولة الحديثة.
مشروعه الجديد الذي أوشك على الانتهاء منه يتناول الطب والقانون باعتبارهما «أكثر ممارستين شهدتا أكبر عملية تحديث في القرن التاسع عشر» كما يقول. الطب والقانون يتقاطعان في مناطق شائكة، أهمها الطب الشرعي والتعذيب. يوضح: «المؤرخون الذين اهتموا بموضوع التنوير والنهضة والردة، أو بسؤال الوافد والموروث، تعاملوا مع الموضوع باعتباره «تاريخ فكر». هؤلاء يلخصون أسباب فشل مشروع التنوير العربي بأسباب عدة، إما لأنّ ردةً أصابت مثقفي التنوير، أو بسبب التأثير الوهابي الخليجي، أو بسبب عملية التغريب، أو حتى بسبب تقاعس الدولة عن أداء دورها. كل هذه التفسيرات لها سببها الوجيه، لكن أجد هذا الكلام لا يزال نخبوياً». يوضح: «أريد أن أعرف إلى أيّ درجة كان لهذا المشروع صدى لدى الناس العاديين؟ هل صحيح ما يقوله الإسلاميون عن أنّ كل كلام النخبة مجرد بقعة زيت على ماء، أم أنّ لمشروع التنوير والنهضة صدى لدى الناس العاديين؟ هذا هو سؤالي الذي أحاول أن أجيب عنه».
لم يناقش خالد «فكرة»، بل «ممارسة» تعكس حياة الناس. وعبر هذه الممارسة، يحاول قياس مدى إقبال الناس عليها. الممارسة الأولى التي استند إليها كي يثبت فكرته: الطب الشرعي. «كان ممارسة جديدة تلجأ إليها الدولة والسلطة. وطبيعي أن يرفضها المجتمع، وخصوصاً أنّه منذ أن قتل قايين هابيل كان هناك حرمة للموتى. وكان يصعب أن يتقبل الأفراد فكرة التشريح في كل العالم، إذ إنّ إكرام الميت دفنه، فما بالك إذا كانت الدولة تقوم بذلك باسم التنوير والنهضة؟». يستشهد خالد بأمثلة عديدة تؤكد وجهة نظره، استقاها من مئات الوثائق الموجودة في دار الكتب. ما جرى لخالد سعيد تكرّر مثله تماماً في القرن التاسع عشر. أصرت «أسرة الضحية على تشريح الجثة حتى تحصل على حقوق ابنها».
التعذيب كان أحد الدوافع الرئيسية التي قامت من أجلها الثورة المصرية، التي كان خالد فهمي في صلبها، بل ربما لأول مرة يكون «المؤرخ» في قلب الحدث، أو يتابع حدثاً يعرف تماماً أن التاريخ سيتوقف عنده طويلاً. كيف سينظر التاريخ إلى فترة حسني مبارك؟ يجيب سريعاً «حقبة سوداء. التاريخ لن يذكر له شيئاً سوى أنه حكم ثلاثين عاماً». ويتابع: «لم يكن مبارك ونظامه مجرد نظام قمعي، بل كان نظاماً خسيساً، لن نتوقف أمام أي إيجابيات له. لم يستطع مبارك أن يلهم الشعب أو يجسد أحلامه». صاحب «حياة محمد علي» متفائل بكل ما جرى حتى الآن في مصر. لم يفقد تفاؤله رغم بعض المطبات التي مرت بها الثورة، وإن كانت دراساته عن تاريخ الجيش المصري الحديث تجعله يؤكد أنّ «وجود الجيش في الحياة السياسية خطر على الثورة وعلى الجيش نفسه، لذا لا بد من أن يعود إلى ثكَنه».
خالد يشرف الآن على لجنة توثيق الثورة، التي تحاول جمع وحفظ جميع الوثائق المتعلقة بـ «25 يناير» للأجيال المقبلة. ويشير إلى أنّ «الأحداث التاريخية المهمة السابقة، مثل ثورة 1952، وحروب مصر والعرب ظلّت بلا وثائق لضرورات أمنية كما يقال. وعندما نريد أن نكتب تاريخ هذه الحروب، نلجأ إلى كتابة تاريخ حروبنا من وثائق بريطانية وأميركية وإسرائيلية. عدم إتاحة الوثائق بداعي الأمن يضر بالأمن نفسه».
ليست مهمة لجنة كتابة تاريخ الثورة كتابة التاريخ. يقول: «نحن نعمل على توفير المادة التاريخية لمن يرغب في كتابة التاريخ لاحقاً. ولهذا نجتهد من أجل أن تتصف هذه اللجنة بالشفافية والدقة والتناسق والتفصيل قدر الإمكان».



5 تواريخ

1964
الولادة في القاهرة

1985
تخرّج من الجامعة الأميركية ــــ قسم الاقتصاد

1993
حصل على الدكتوراه من جامعة أوكسفورد في موضوع «كل رجال الباشا» الذي تُرجم بعد ثمانية أعوام إلى العربية

2005
صدر كتابه «الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة» عن دار «الكتب والوثائق القومية»

2011
عاد إلى مصر رئيساً لقسم التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة، وتولى مسؤولية التوثيق لـ «ثورة 25 يناير»