عشتُ في الكتب. كان يُظَنّ أنّي لا أفارق دروسي وأنا لم أكن أفارق الروايات الشعبية. بعد سنوات من الرواية أدمنت الكتاب عموماً، والبحث والنقد خصوصاً. نادراً ما قرأتُ شعراً، ومعظمه إذا قرأته نعست. كذلك الرواية الأدبيّة، بلزاك وستندال. لم أستطب قراءة الشعر إلّا في العقد الأخير، وما زلتُ آنسُ إلى الفكر الشعري أو التأمّلات والدراسات أكثر من الشعر. أجد شعراً في فكر سيوران أكثر ممّا في قصائد خليل مطران. ورغم ضيقي بثرثراتها، لم يضعف حبّي للرواية الشعبيّة، على ضحالتها في ثلاثة أرباع القرن الأخير.لا أعتقد أن أصدقائي أصابهم هذا الجنوح. غالباً ما سمعت أدونيس يشجب القصّة ويعتبر الرواية بلا معنى. الرحبانيّان لا ألهاهما شيء عن العمل ولا ألهاهما العمل عن الحياة. لغز. ربّما لأنّهما عاشا الحياة سلفاً في الطفولة والمراهقة. شوقي أبي شقرا بدا دوماً كأنّه قرأ سَلَفاً كلّ ما يجب أن يُقرأ. مخلوقٌ كما هو من البداية. يوسف الخال قارئ ممتاز، منوّع، شكلاً ومضموناً، لكنّ الكتاب لم يشغله عن الحياة. كان من الصنف الذي تكفيه رشفةٌ واحدة ليعرف الباقي. الماغوط لم يشغله شيء عن الحياة. توفيق صايغ كائنٌ مأسويّ، جريح ساخر، ذهْنيّ، لا أعرف كيف اقتطعَ لنفسه مجالاً عاش فيه العيش كما يعيشه الأشخاص الطبيعيّون، لكنّه فعل ذلك على الأقل من ناحيتين: التدريس ورئاسة تحرير مجلّة «حوار». خالدة سعيد، امرأة مُثلى، كلّها في كلّ ما تفعل، كلّها في الكتابة وكلّها في الحياة. وكلّها كانت أفضل ما فينا.
وليلى بعلبكي، ولور غريّب، وعصام محفوظ، ونذير العظمة، وفؤاد رفقه، وجبرا، ونديم نعيمه، وسلمى الخضراء الجيوسي، جميعهم عاشوا الحياة بكفاءة واستحقاق، وتثقّفوا وشبعوا، وتعلَّموا وعلَّموا، وتَجسّدوا وجسّدوا، إلّا أنا: عشت ما عشته ذاهلاً، مرعوباً، على خطّ وهميّ موازٍ للواقع، ولم أكن أجد نفسي إلّا حين أفتح الكتاب.
عشتُ في الكتب. كنتُ أشرب كلّ كلمة، كلّ علامة تَعَجُّب. وأصدّق. قبل الكتب لم أكن أتكلّم، لم أكن أعرف، وإذا تكلّمتُ تَدَعْفَرْتُ وقلت عكس ما أريد. أو ظهرتُ عدوانيّاً، أو متلعثماً أبله. بعد الكتب أصابتني عقدة الصدق. صرتُ أخاف قول أيّ شيء لا يعكس شعوري أو تفكيري تماماً. أمسيتُ صفحةً من كتاب. لولا الكتب لما أكملتُ الحياة.
لكنّه الكتاب. المحراب. بساط الريح. سيف دون كيشوت. علبة السحر. مغارة علي بابا. حيث تعود الكائنات إلى مباخرها، إلى أغصانها المقدّسة، إلى ألوهتها. لا شيء يُعمّدك ويأخذ بيدك ويعرّفك ويناولك مثل الكتاب. لا شيء يستولدك ويغطّيك في الليل مثل الكتاب. لا شيء يساويك بما تصبو إليه مثل الكتاب. لا شيء يطوي أمامك موتك دون انتباه مثل هذا المعشوق الجاهز للإقلاع...

■ ■ ■

ولم أعد أعرف ماذا أفعل إن لم أسترشد بكلمة أو بطل. في ما بعد، ضاربت السينما على هذه السلطة للكتاب، لكن الفرق واضح: السينما استعراض، الكتب روح متوارية. روح لكَ وحدك. جَسَدٌ كامل الأوصاف دائماً.

■ ■ ■

كان للكتاب رائحة الحلاوي، رائحة نبيذٍ عتيق في بيت فقراء. كانت مكتبات درويشة في شارع اللعازاريّة على ساحة البرج، قبالة كاتدرائيّة مار جرجس المارونيّة، ملتقى لتلميذ مع رواياته المفضّلة. مغامرات السيف والترس والحب والخيانة والعين التي تقاوم المخرز. قارئٌ على هامش الدراسة، مراهق مبتدئ، أطيب أكلاته تلك الروايات المزيّنة أغلفتها برسوم شعبيّة والطاعنة سطورها في التاريخ، تاريخ فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، والطاعنة عليه، المتخيّلة على ذوقها، المكيّفة عقل الفتيان على هواها، المعتقدة أنّها تكيّفها على هواها، وما عقل الفتى بغير فارس متعطّش إلى حصانٍ مجنَّح، ليس المهم نواياه، بل سحره العابر بفارسه إلى الدوخة تلو الدوخة في كواكب الكسل...
سَقْياً لكِ يا مكتبات العفونة العذْبة! كنتِ في متناول الجيب الفارغ وشراهة اليدين والعينين! ماذا كان يقود خطاي إليكِ، أنا الجاهل وأنتِ المجهولة، إلّا غريزة الصيّاد، إلّا حَدْس حيوانات الكتب؟ سَقْياً لخصبِ الجوع إلى الهروب! سَقْياً للتفتُّح! لا روعة فوق روعته.

■ ■ ■

لو عرف المؤلّف كيف سيتحوّل كتابه في ذاكرة قارئه! لو يعرف المؤلّفون هل كانوا يحتفظون برباطة جأشهم وهم يكتبون؟ ولو عرف الروائي والمفكّر والناقد والمتأمّل والشاعر كم عَلَقَة تمتصّ دمَ قلبه، كم فازعٍ يطالعه لا ليتعلّم، لا ليحتذي، بل لينسى، كم جماعات تتّخذ من أوراق كتابه أفيوناً لرئتيها، ومراكب نجاة من واقعها، وعشبة عجائبيّة تقيها الموت بؤساً وبَرْداً بين أنياب الحياة اليوميّة، الحياة المميتة يوميّاً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً،
لو عرف صانعو الجنّات هؤلاء أين يحملوننا، هل كانوا يثابرون، أم أن فرائصهم سترتعد ويسقط القلم من يدهم؟
لكنْ لا، ليس هكذا. لا بدّ أن يكون بين السَحَرة مَن يَنْسحر ليسحر... المنسحر المخطوف لا يَصْطنع جنّات بل يرميها من يديه رشقاً كلّما فتحهما رَشْق الشجرة لثمارها اليانعة. لا يستطيع أن يسحرك مَن لم يَنْسحر قبل ذلك أكثر منك.

■ ■ ■

من التراب إلى التراب؟ بل من السراب إلى السراب على أجنحة كتاب.

■ ■ ■

أسعد لقاءاتي تمّت بين دفّتي كتاب. أجمل لحظات لقاءاتي الواقعيّة تلك التي وجدتُ فيها آثاراً للقاءاتي الكُتُبيّة. يُحَبّ الشخص الذي يوحي لك أنّه خارجٌ من كتاب لأنّه في الحقيقة لا يُحَبّ سواه. لا نُحِبّ إلّا خيالنا.

■ ■ ■

يُلهينا الكتاب عن التفكير كما يُلهي المسافرَ تتبُّعُ القمر من نافذة السيّارة.

■ ■ ■

أكتبُ لك عندما أكتب لنفسي. أكتبُ لك وحدك عندما أكتب لنفسي وحدها.

■ ■ ■

الرواية تتمّة «علميّة» للحكاية. هل هناك طفلٌ لا يحبّ الحكاية؟ يا للهول! «كان ما كان في قديم الزمان» مفتاح المفاتيح. أكثر مَن كَرِه القصّة بين أدباء فرنسا بول فاليري وأندريه بروتون. الأوّل لأنّه من عقمه أراد لجم كل تدفّق وتعقيم أيّ عمليّة خَلْق فيها خلجةُ عفويّة، والآخر ظنّاً منه أن القصّة غير شعريّة، وأجمل آثاره سرديّات.
هل هناك طفل لا يعشق الحكاية؟ إدمان مطالعة الروايات (أو مشاهدة الأفلام) إرضاعٌ للطفل الباقي فينا ويرفض أن ينام.

■ ■ ■

كنت كلّما نظرتُ حولي إلى حياة العائشين الحياة يتزايد خوفي منهم ويتفاقم شعوري بالتقصير. طيفٌ وسط أحياء. لم أعش في الكتب: اختفيتُ في طيّاتها.

■ ■ ■

أمتع القراءات ما أغمضتْ عينيك داخل انفتاحهما على القراءة.

■ ■ ■

لا أضع قصّة فوق الرواية الشعبيّة. «البؤساء»، «أسرار باريس»، «الكونت دو مونتي كريستو»، أكثر روعةً من الالياذة والأوديسه. هاتان ملحمتان باتتا في المنفى، وتلك روايات تجسّدت فيها روح الإنسان الحديث ـــــ الإنسان الخالد، الإنسان، لا البطل ولا الإله. ليس في العربيّة قصّة أجمل من «ألف ليلة وليلة».
الملحمة الحديثة هي الرواية. اللغة الجديدة، اللغات باتت الرواية. الحريّة ميدانها الأرحب الرواية. مختبر اللغة الأصعب هو الشعر، مختبرها الأسهل هو الرواية. المواهب الكتابيّة والتصويريّة والإيقاعيّة والمسرحيّة والفكريّة والنقديّة والواقعيّة والشعريّة والميتافيزيكيّة كلّها تتلاقى وتتعايش وتأخذ مداها في الرواية. العالميّة التي نحلم بها قد لا نبلغها إلّا برواية عربيّة عالميّة، مكتوبةٍ عن أشخاصنا وحياتنا وبالغةٍ إلى كلّ شخص في كلّ حياة.

■ ■ ■

حين أكتب عن الشعر، لا أستثني الشعر المبثوث في حنايا النثر، ولا سيّما في الرواية والمقالة والتأمّلات. حين أقول «الشعراء»، أقصدهم جميعاً بأيّ نوعٍ أدبيّ أو فنّي أو هندسيّ أو شفهيّ أو سلوكيّ أو موقفيّ عبّروا. خشية البعض على الشعر من القصّة كخشية الناسك على الدين من المؤمن غير الناسك، من السائر في الدنيا. للسائر في الدنيا فضلٌ أكبر من فضل الناسك في الثبات على الإيمان.

■ ■ ■

أكلَتْ مطالعة الكتب براءتي الأولى وظلّت تبسط سلطتها على براءاتي وخطاياي اللاحقة. عاشرتُ مَن عاشرتهم لأنّهم يشبهون الكتب. ولم أتجسّد مع الذين تجسّدتُ معهم إلّا مجاملة. الكتاب هو جسدي.
لم يستهوني كثيراً نشر كتب لي لأنّي في الأساس قارئٌ لا كاتب. هاربٌ لا متدخّل. طالبُ حلم لا طالب علم.
ومن سرابٍ إلى سراب إلى دهر الداهرين.