تمنّى والده أن يكون صورةً عنه، يكمل ما لم يستطع إنجازه من طموحات. راح ذاك الرجل التنويريّ والحداثيّ، يزوّد ابنه المدلل بكتب تراثيّة، وأخرى لطه حسين وتوفيق الحكيم، وبعض المجلات المصريّة. من بين جميع أفراد العائلة، خصّه بغرفة منفردة، من أجل توفير أفضل الأجواء لتحصيله العلمي. عندما بلغ العشرين، كان والده أوّل من دفع له أجر طباعة ديوانه الأولّ «أصابع الحجر» (1976).الشاعر العراقي الذي يزور بلاده بعد 31 عاماً من الغياب، يتذكّر حي الألف دار الذي نشأ وتربّى فيه. «كان بؤرة لكلّ ميثولوجيا المجتمع العراقيّ المتنوّع وعذاباته وأساطيره. وكانت مدارسه مراكز حقيقيّة للسجالات السياسيّة والثقافيّة، خرجت منها أسماء مهمّة إلى الوسط الثقافيّ في ما بعد». لم تكن دراسته الابتدائيّة والمتوسطة محطّة مهمّة بالنسبة إليه، كما كانت دراسته في «ثانوية قتيبة». هناك زرع أساتذته في نفسه «أولى بذور الوعي الشعريّ والنقديّ»، وبدأ نشر قصائده في جريدتي «الراصد» و«التآخي» قبل أيّام من امتحان البكالوريا.
في السبعينيات، لم يكن لعيبي متحزّباً، لكنّه كان يميل إلى اليسار. تابع دراسته في كلية الآداب في «الجامعة المستنصريّة»، ويتذكّر كيف كان جيله يعيش آخر صيحات الموضة، كان ذلك أيّام «الميني جوب». على طاولات «مقهى البرلمان» في شارع الرشيد، عاصر أسماء أدبية صاعدة. «كان المقهى برلماناً حقيقياً لمثقفي العراق، هو وغيره من المقاهي آنذاك». هناك كانت تلتقي مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية من دون قطيعة نفسيّة. يورد ذلك مستعيداً صداقته مع شعراء يكبرونه سناً، مثل فوزي كريم وصادق الصائغ، وقصاصين مثل حميد المطبعي وعبد الستار ناصر. لهذا، يرفض تقسيم الأجيال لكونه صناعةً لقطيعة لا يبرهن عليها النصّ، لأنّ هموم الشعر الكبرى واحدة.
التقيناه في «مقهى أرادن» في حي الكرادة. ينظر إلى الشارع، فيرى شعراءً شباباً يتوجهون إلى مقهىً مجاور. تستوقفه خطواتهم. «جميل أن يصبح البلد جنّة للشعراء كما يزعم، لكنّ الأقل جمالاً أن تكون الممارسة الشعريّة مجانيّة، وأن لا يقع الانتباه على الممارسات المعرفيّة الأخرى المرتبطة جوهريّاً بعمل الشاعر». بالقرب من طاولة المقهى، طابور سيّارات ينتظر المرور من نقطة تفتيش. يسرّ إلينا بخلاصة عن مدينته الأمّ بعد فراق: «أحزنتني الفوضى المعماريّة، والغبار الذي تشمّه في كلّ منعطف، وغياب الأشجار التي كانت شاخصة في حديقة كلّ بيت عراقيّ، فضلاً عن الأزمات اليوميّة الجسيمة التي لا تليق بالكائن الآدمي».
ينظر إلى المجتمع الذي غادره قبل عقود، على أنّه عائلي «بالمعنى الضيّق والسلبيّ للكلمة»، وقبليّ في مدن الجنوب، وبدوي في أماكن أخرى. «أي مبدع مهما كانت درجة تمرّده وحساسيته الإبداعيّة، لا يستطيع الافلات من هذه القيود». قيود لم تمنع صاحب «نص النصوص الثلاثة» من تسجيل تمرّده. عام 1980، غادر العراق بعد الهجمة القاسية على مثقفيه، متوجهاً إلى بيروت. اليوم، وبعد سنوات الغياب الطويلة، يقرّ بأنّه تكوّن جزئيّاً في العراق، لكنّه ينتمي في تكوينه الأخلاقيّ والثقافيّ إلى مناخات بلاد الشام. يلاحظ أن تغيّرات كثيرة طرأت على وعي العراقيّين المرتحلين إلى لبنان، وأبرزها قبول الاختلاف والاعتياد على الحريّة. «بعض الصديقات العراقيات المهاجرات إلى بيروت، كُنّ يخجلن من الظهور أمامنا بمايوهات البحر، لأنّهن لم يعتدن ذلك في بغداد» يتذكّر.
مع تلك «الهجرة الأولى» كما يسمّيها، اختلف فهمه للشعرية. بعدما كتب قصيدة ذات نزعة سياسيّة ـــ كما يصفها السيّاب ـــ ظهرت مع تبدل المكان انتقالة جذريّة إلى مواضيع مثل الإباحية والوجود والماورئيات. «اعتبرتُ صوتاً ميتاً داخل العراق منذ أكثر من 30 عاماً، إذ لم يقم أحد بمحاولة جادة لمتابعة تطوّري في الخارج. حتّى أنّ النقّاد ممن يعرفون تجربتي، صمتوا صمتاً مريباً بعد مجموعتي الثانية «تتويج الشجرة الهرمة»».
موعد هجرته الثانية لم يتأخّر كثيراً. بعد ثلاث سنوات من مغادرة بغداد، خرج من العاصمة اللبنانية مع المقاومة الفلسطينيّة، متوجّهاً إلى عدن. كان ذلك المفترق حاسماً بالنسبة إليه، إذ يؤرّخ في مساره الخاص لسقوط كلّ الأيديولوجيات. من عدن توجّه لدراسة الفنّ في سويسرا، وتخرّج من «المدرسة العليا للفنون البصرية» في جنيف. هجرته إلى البلد الأوروبي امتدّت طويلاً، وكرّس الكثير من سنواتها لدراسة علم الاجتماع، خصوصاً علم الاجتماع الفني والفن الإسلامي. هكذا حاز الدكتوراه في علم الاجتماع من «جامعة لوزان». وتخصص نهائياً في الحضارة الإسلامية والفن الإسلامي من وجهة نظر علم الاجتماع. لكنّ مؤلّفاته في النقد والفنّ والاجتماع، لم تبعده عن هاجسه الشعري الأساسي.
يعدّ شاكر لعيبي مجموعته «أناشيد الجنون» المكتوبة بين 1975، من أوائل إنجازات قصيدة النثر. لكنّ الديوان الذي قدّم له الناقد عبد الرحمن طهمازي، حمل أختام الرقابة، ولم يقرأه كثيرون. أمّا ما كتبه في المجال الأكاديميّ أو النقد، فينطلق فيه من «روح الشاعر في المقام الأوّل». لذا تجده يستنكر مطالبة الشاعر بأن يبقى في تخوم محدودة. مشكلة الثقافة العربيّة برأيه، هي صعود الوعي الأصوليّ في العقد الأخير. «نتكلّم عن صعود مباشر للأحزاب السلفيّة، ويمكننا الحديث عن سلفيّة كامنة في الكثير من مفاصل ثقافتنا»، ويعطي مثالاً على ذلك الترجمات الحرفيّة، والتشبّث ببعض الجماليات في الشعر والأدب.
يلحظ لعيبي سيطرة نمطين من «المثقّف العربي» اليوم: الأول فاعل وحقيقي، والآخر «نموذج للغالبية المطلقة المرئية على السطح الثقافيّ العربيّ ممّن جرفتهم أحداث الثورات العربيّة بالكامل». كما يرى أنّ محنة المثقف العراقيّ من أكبر المحن في التاريخ، لأنّه «هُمّش مرتين وطُحن عشرات المرات، أولاهما بفعل نظام عقائديّ لا يؤمن إلا بوحدانيته (...)، وثانيهما في منافٍ ثقافيّة وجغرافيّة لم تسمح له بالإسهام في حركة البلد من الداخل». أمّا عن تجربة المثقفين الذين عايشوا الغزو الأميركي، فيلحظ لعيبي أنّ «الالتباس في المشهد الثقافيّ على أشدّه» بسبب تنازع الولاءات، وعدم وجود استقلالية عند المثقفين العراقيين. لهذا يخوض المستقلون البعيدون عن المظلات الحزبيّة، برأيه، معارك ضدّ التيار بأثمان باهظة.
انحناء المثقف على مشروعه أو نزوله إلى الشارع للتظاهر، كلاهما فعلان سياسيان، وإن كان أحدهما غير مباشر. «الكتابة عن العمارة الذكوريّة، كفعل ثقافيّ يمسّ السياسة بعمق، لأنّه يعالج إشكالية وضع المرأة في مجتمعاتنا» يقول لعيبي. وهو فعل بذات خطورة الخروج في إحدى تظاهرات ساحات التحرير للمطالبة بالإصلاح.
يمرّ بائع الصحف الجوّال، فنسأله رأيه في الصحافة الثقافيّة العراقيّة. «إنّها تلتقط أنفاسها بحريّة نسبيّة، وتحاول أن تذهب إلى مناطق كانت محرّمة لوقت طويل في زمن الصحافة الموحدة الرسميّة»، يقول صاحب «الحجر الصقيلي». لكنّ تلك الصحافة تصطدم اليوم بحسب الشاعر العائد بعراقيل مختلفة «ناشئة من واقع سياسيّ ينصّب نفسه رقيباً جديداً على ثقافتنا».



5 تواريخ

1955
الولادة في بغداد

1976
صدور مجموعته الشعريّة الأولى «أصابع الحجر»

1980
غادر العراق إلى لبنان ومنه خرج بعد ثلاث سنوات إلى عدن فسويسرا

2003
دكتوراه في علم الاجتماع الفنّيّ والجماليات من جامعة لوزان في سويسرا

2011
يزور العراق لأوّل مرة بعد 31 عاماً من الغياب