لو كان لنا أن نختار حرفاً بين الحروف يختصر سيرة محمد بكري، لكان الكاف. كاف، كما في اسم شهرته بكري. كاف، كما في كرمائيل المدينة التي بناها بن غوريون على أراضي قريته البعنة. وكاف أيضاً، كما في «حنة كاف» فيلم اليوناني كوستا غافراس الذي أطلق شهرة الممثل الفلسطيني عالمياً... وأخيراً كاف كما في «جوزف كاف» بطل رائعة كافكا «المحاكمة» التي تحكي قصة رجل يحاكم من دون تهمة، كما حوكم محمد بكري في محاكم الاحتلال من دون أي تهمة. للمفارقة، كانت جريمة جوزف كاف أنّه يهودي في أوروبا، أمّا جريمة بكري فليست سوى أنّه عربي فلسطيني يعيش تحت سلطة الأبارتهايد الصهيوني.التقينا محمد بكري في نادي الشطرنج في نيويورك. كان جالساً إلى طاولة والرقعة أمامه. لشخصه حضور خاص، نوع من الكبرياء. يبدو كالواقف وإن كان جالساً. تنظر إليه فترى شيئاً من حزن محمود درويش الأنيق. بداية الحديث لعبة شطرنج، افتتحها المخرج والممثل الفلسطيني ببيدق، وتبعه بملك. لا أحد يحرّك ملكه بتلك الطريقة الانتحارية سوى لاعب محترف، أو مبتدئ لا يفقه شيئاً في اللعبة. الاحتمال الأوّل هو الأصحّ، إذ يربح بكري اللعبة في خمس نقلات أو ستّ فقط. في الحياة كما الشطرنج، يلعب بكري من خارج النص، يواجه خصمه بخطوات لم يحتسبها. من تلك الخطوات فيلمه «جنين جنين» (٢٠٠٢). «شاركت في تظاهرة أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمخيم جنين. أطلقوا علينا النار، فأصيبت الممثلة فالنتينا أبو عقصة في ذراعها. كانت تقف بجانبي». بعد تلك الحادثة، تسلّل بكري مع مصوّر ومهندس صوت إلى داخل المخيّم، وبقي هناك لأربع ليالٍ يصوّر المجزرة. مع العرض الأوّل للشريط، سيّر اليمين الإسرائيلي تظاهرات ضدّه، فمنعته الرقابة، وانهالت على بكري الدعاية المنظّمة، تتهمه بأنّه «إرهابي». وعام 2005، رفع خمسة جنود دعوى ضدّه «بحجَّة أنَّ الفيلم جرح مشاعرهم وأحاسيسهم وكرامتهم، وشوّه سمعتهم، وسبّب لهم أذىً نفسياً. كأنّهم ملائكة لا يفعلون ما صوّره الفيلم. إلا أنهم ليسوا إلا كلاباً مسعورة، وقد قلتُ ذلك لهم في المحكمة فازداد عواؤهم»... بعد سنوات من العرقلة، أعلنت المحكمة أخيراً قرارها بإسقاط الدعوى عن بكري. أُعلن الحكم على الإنترنت، لحرمان الممثل الفلسطيني من الظهور في مظهر المنتصر في جلسة علنيّة.
ولد محمد بكري عام ١٩٥٣ في قرية البعنة في الجليل الأعلى التي تبعد عن بيروت مسافة ساعة ونصف في السيارة. يذهب غالباً إلى صيد السمك مع أصدقائه في رأس الناقورة، ومن هناك يشرف على الأراضي اللبنانية. في ظل الاحتلال الإسرائيلي، لم تكن الكهرباء قد وصلت بعد إلى القرى العربية خلال الخمسينيات. «الدجاج في المستوطنة المجاورة كان يعيش على نور الكهرباء، ونحن على ضوء اللوكس»، يخبرنا بكري. لكن لحسن حظ أهالي البعنة، كان في القرية مهندس كهربائي اسمه أبو عبد الله يوسف بولس، وكان مهووساً بالسينما. أسّس صالة يشغّلها على مولّد كهربائي من صنعه، وكان يعرض فيها أفلام هوليوود الكلاسيكية، و«أفلاماً هندية وعربية وأفلام بروس لي». هكذا، تفتّحت عينا بكري على السينما، فعشقها...
عشق المسرح أيضاً بسبب تعلّقه بالعربية. «كان صفّ الإنشاء أقرب الصفوف إلى قلبي، وكان أستاذي يطلب مني قراءة موضوعي أمام الصف. ومن هناك تولّدت رغبتي في الأداء أمام الجمهور». في تعلّقه بلغته، تعلّقٌ بهويته التي حاول الاحتلال محوها. «كنّا عندما نتكلّم اللغة العربية في الستينيات، نخفض أصواتنا في الأماكن العامة. اليوم نتكلم بصوت عال، لأنّ حاجز الخوف قد فقد، وهذا ما لم نعرفه في طفولتي وشبابي»، يقول. «أي أستاذ مدرسة كان يتحدث في السياسة أو يلتحق بالحزب الشيوعي أو يقرأ جريدة «الاتحاد»، كان الشين بيت (جهاز الشاباك) يطرده من وظيفته».
في عام ١٩٧٦ حاز إجازة في المسرح والأدب العربي من «جامعة تل أبيب»، وقدّم أوّل عرض مسرحي له «مشهد من الجسر» على خشبة مسرح حيفا البلدي. أعاد عرض العمل في نيويورك قبل سنوات، وعلى خشبة مسرح الميدان في حيفا، حيث أخرج «يوم من زماننا» لسعد الله ونوس. عمل أيضاً في «مسرح القصبة» بين القدس ورام الله، وعلى خشبته أنجز مسرحيات عدّة، أهمها «الليل والجبل» لعبد الغفار مكاوي، و«المهرّج» لمحمد الماغوط، و«المهاجر» لجورج شحادة، و«العذراء والموت» لأرييل دورفمان... لكنّ التحول الكبير في حياته المسرحية كان عام ١٩٨٦، حين اقتبس مع المخرج الفلسطيني مازن الغطاس رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» تحت عنوان «المتشائل»، وجالت في أكثر من ألفي عرض في مختلف أنحاء العالم...
حين اختاره كوستا غافراس للمشاركة في فيلمه «حنة كاف» (1983)، كان في الثامنة والعشرين. أدّى دور سليم بكري اللاجئ الفلسطيني الذي يخوض معركةً لاستعادة منزله المحتلّ. «كنت في ذلك الفيلم أحمل قضية الشعب الفلسطيني كلّه، وكنت أشعر أنني أحمل شيئاً مقدساً». تعرّض الشريط لهجمة صحافية وإعلانية شرسة، حطّمته تجارياً، وأقفلت أبواب السينما العالمية في وجه الممثل الشاب. لكن حين عرض «حنة كاف» في القاهرة، كانت مناسبة ليمضي برهةً من العمر مع الشيخ إمام. «سهرت معه في حي الغورية وحوش آدم ليلة عرض الشريط في مهرجان القاهرة. غنّى «يا فلسطينية» و«الأولى بلدي والثانية بلدي»، برفقة أحمد فؤاد نجم». بعد «حنة كاف»، أدّى دور الفدائي الفلسطيني إحسان في شريط إسرائيلي بعنوان «ما وراء القضبان»، من إخراج يوري بربش، وقد رشح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. بكري الذي تزوّج وهو في الثانية والعشرين، كان يعمل في ذلك الحين لإعالة عائلته. «في ليلة جوائز الأوسكار نفسها كنت أعمل في حمل الأسمنت في ورشة بناء»، يخبرنا.
كرّس بكري حضوره في السينما مع أفلام مثل «حيفا» (١٩٩٦) و«عيد ميلاد ليلى» (2008) لرشيد مشهراوي، وكان آخر أدواره شخصية «ميم» في «زنديق» (٢٠٠٩) لميشيل خليفي الذي عمل معه سابقاً في «حكاية الجواهر الثلاث» (1993). «في «زنديق»، لم يكن دور «ميم» مجرد شخصية، بل صنو لكل فنان يعيش بعيداً عن وطنه، وإن كان يحيا على أراضيه». وقّع بكري مخرجاً أربعة أفلام هي «١٩٤٨» لمناسبة خمسين عاماً من النكبة ، و«جنين جنين»، و«من يوم ما رحت» (2005)، و«زهرة» (٢٠١٠) عن خالته زهرة التي لجأت إلى لبنان عام ١٩٤٨ ثمّ عادت سراً إلى فلسطين.
لم ينجز بكري كلّ ما كان يتمنّى إنجازه في ميدان الفن السابع... لكنّه أسّس عائلة فنية. توجّهات معظم أولاده صبّت في الفنّ، ومنهم صالح بطل «ملح هذا البحر» لآن ماري جاسر. بعدما ارتاح من جلسات محكمة «جنين، جنين»، صار يسافر أكثر. يواصل أيضاً تقديم برنامجه «وجهاً لوجه» على شاشة التلفزيون الفلسطيني، ولا يطمح إلى تجسيد أي شخصيّة سياسية، لا على المسرح ولا على الشاشة. «لا أحترم السياسيين. همومي تخصّ الناس والشعب والضعف الإنساني. أميل إلى الناس العاديين والمبدعين مثل ناجي العلي الشفاف المبدع المتألم. أحبّ أن أؤدي دوره، وربما دور غسان كنفاني أو محمود درويش، لكنني لا أرى نفسي في أفلام بطولات وخوارق».



5 تواريخ

1953
الولادة في قرية البعنة في الجليل الأعلى (فلسطين المحتلّة)

1976
تخرّج في «جامعة تل أبيب» مع إجازة في المسرح والأدب العربي

1983
فيلم «حنّة كاف» لكوستا غافراس يطلق شهرته العالمية

2009
أدّى دور «ميم» في «زنديق» للسينمائي الفلسطيني ميشيل خليفي

2011
يدرس المشاركة في مسرحية على أحد مسارح برودواي، ويواصل تقديم برنامجه التلفزيوني «وجهاً لوجه» على شاشة التلفزيون الفلسطيني