«في كل أفلامي، سعيتُ إلى أن أقول ذاتي وأفكاري الشخصية». بهذه الجملة، يختزل برهان علوية (1941) طريقته وأسلوبه في السينما. جملة في السياق الذي يضع فيه الشعراء والمفكرون أعمالهم، يدعونا من خلالها المخرج اللبناني المخضرم إلى معاملة أفلامه بوصفها نصوصاً، سواء أكانت روائية أو تسجيلية. السينما ليست أدباً أو فلسفة، لكنها مكتوبة أو مسرودة بالصور. إنها تحول السرد الموجود في الأدب والفلسفة إلى تيار من اللقطات المتتالية. معاملة الأفلام كنصوص تطرد من أذهاننا الفكرة الكسولة التي ترى أن المخرج مختص بالوقوف وراء الكاميرا، وأنه مبدع تقنيات بصرية فقط.
سينما برهان علوية، مثل جميع أقرانه وأبناء جيله هي «سينما مؤلف»، سينما مؤلفٍ صدف أنه مخرج وليس شاعراً أو روائياً مثلاً. يفضِّل صاحب «كفر قاسم» البدء بالحديث عن تجربته من إعادة النظر في مهنة المخرج السينمائي. بالنسبة إليه، المخرج أكثر من أفلامه بكثير. الأفلام هي لحظات استثنائية وصادقة، لكنها لا تختزل حياة المخرج كلها. «أنا صنعتُ أفلاماً اخترتُها، لا هي التي اختارتني. أنجزت أفلاماً أحببتها، ولديّ قناعة بأهميتها كموضوع وفن وخيال. أنا مخرج هذه الأفلام، ولستُ مخرجاً بالمطلق».
داخل هذه الأفكار، يدعونا عرّاب السينما اللبنانية البديلة ـــ كما سمّاه الراحل عمر أميرلاي ـــ الى احتساب أفلام مخرجي السينما الجديدة، ضمن مختبر الحداثة البيروتية في عصرها الذهبي. كانت بيروت تغلي بالشعر والرسم والصحافة، بينما كانت خانة السينما فارغة إلا من أفلام التسلية والمقاولات. «جيلنا قدم سينما بديلة، وأدخلها إلى الحياة الثقافية اليومية. حدث هذا في أماكن أخرى مثل دمشق والقاهرة وتونس. اليوم باتت السينما العربية كلها بديلة تقريباً».
ولد برهان علوية في قرية أرنون الجنوبية. استقرت عائلته في بيروت منتصف خمسينيات القرن الماضي، بعد تنقلات متعددة بحكم عمل والده في سلك الدرك. دخل الحزب الشيوعي لفترة قصيرة. كان في الخلايا الطلابية مع الراحل جورج حاوي. أنهى دراسته الثانوية مع أحداث 1958 التي يعدّها بروفة للحرب الأهلية لاحقاً. اختار دراسة السينما بالمصادفة. ساعده في ذلك أنه عمل سنتين مساعد مصور في تلفزيون لبنان، من أجل تأمين جزء من أعباء دراسته. لكن قبل أن يلتحق بمعهد «إنساس» (المعهد العالي الوطني للفنون المسرحية في بروكسل)، سيذهب في رحلات تسكع طويلة ومتقطعة إلى أفريقيا وفرنسا. يُفاجأ برهان أحياناً، إذ يعثر بين أوراقه القديمة على رخصة قيادة سيّارات من الكونغو، أو صورة له في مجاهل إثيوبيا.
أجواء هزيمة حزيران 1967، والثورة الطلابية في باريس 1968 كانت خاتمة تسكعه، ومدخلاً إلى دراسة الإخراج السينمائي في بلجيكا. في المرحلة الأخيرة من دراسته، أنجز فيلماً قصيراً بعنوان «ملصق ضد ملصق» (1971)، ثم وجد فيلمه الروائي الأول «كفر قاسم» في انتظاره بعد تخرجه مباشرة. يكاد هذا الفيلم يعادل حضور برهان علوية في ذاكرة الجمهور والنقاد. أنجز علوية أفلاماً أخرى، مهمّة، لكن «كفر قاسم» هو أول ما يُذكر بعد اسمه. هل هو الفيلم الذي سيحفظه من النسيان؟ يستسيغ ذلك، ويقول: «العروبة وعبد الناصر صنعا وعينا، وفلسطين هي التي أدخلتني إلى السينما. كان يمكن أن أدرس شيئاً آخر».
الفيلم الذي صاغ فكرته الراحل عاصم الجندي، وكتب علوية الحوار والسيناريو مع الراحل عصام محفوظ، تحول إلى علامة فارقة في مسيرته. «كفر قاسم جاء في توقيت صائب، ولجمهور عربي يريد هذا النوع من السينما. أنا سعيد لأن الفيلم لا يزال يُشاهد بالطريقة التي صُنع بها. كأن الزمن أحبّ هذا الفيلم واعتنى به». ما بدا أنه استهلال قوي ومدهش لمسيرة مخرج لبناني، ارتطم في العام التالي مباشرة بالحرب الأهلية التي أصابت علوية، ومشروعه السينمائي في الصميم. هكذا، راح يقضي معظم الوقت في منفاه الاختياري بين باريس وبلجيكا.
أنجز فيلمه التسجيلي الأول «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء» (1978) عن العمارة الشعبية في مصر، من خلال تجربة المعمار المصري الشهير حسن فتحي (1900 ــــ 1989) صاحب كتاب «البناء مع الشعب». يقرّ علوية بأن الفيلم كان هروباً إلى موضوع آخر، لكنه وسّع تجربته عربياً. انتظر حتى 1982 كي يُنجز فيلمه الروائي الثاني «بيروت اللقاء» عن سيناريو لأحمد بيضون. بطريقة ما، بدا أن الحرب أعاقت التسلسل الطبيعي لحياته المهنية والشخصية، قبل أن تتكشف لاحقاً عن تروما جماعية أصابت أبناء جيله. صحيح أنه كان فيلماً مميزاً عن هوامش الحرب، لكنه كان بمثابة اعتراف بـ«أننا جميعاً صرنا هوامش»، وهو ما سيظهر بطريقة أكثر إيلاماً في فيلمه الروائي الأخير «خلص» (2007) الذي عانى كثيراً في إنجازه...
عُرض الفيلم متأخراً عن المادة الزمنية والنفسية التي يعالجها، واستُقبل بوجهات نظر متباينة. كان الفيلم تصفية حساب قاسية مع بيروت التي أعاقت تجربته بحربها العبثية وسلمها الزائف، وحوّلت أحلام جيله إلى كوابيس. مع ذلك، هناك حنين ونعيٌ لحبٍّ جارف؟ «صحيح هناك حنين، لكن الفيلم هزيمة من نوع خاص، هزيمة لمثاليتنا وأحلامنا».
في الأفلام التي أنجزها بين فيلميه الروائيين الثاني والثالث، حضرت الهزيمة نفسها بطرق مختلفة. اختلطت بالحرب في فيلم «رسالة من زمن الحرب» (1985)، وبالمنفى الباريسي في فيلم «رسالة من زمن المنفى» (1990)، ثم بمذاقٍ مقلوبٍ للمنفى في «إليك أينما تكون» (2001) الذي أنجزه بعد عودته إلى بيروت. يقول إنه عاد من أجل أن يتعرف ولداه إلى بلدهما ويتعلّما العربية، لكن المنفى الاختياري بدا أقل إيلاماً من شعور النفي في بيروت.
في مقهى الفندق القريب من منزله، روى برهان علوية شذرات كثيرة من مسيرته. التقيناه في وقت متأخر من الليل لأنّ جلسات العلاج والأدوية تُضعف جسده كثيراً في النهار. استعاد بعض الطرائف واللحظات السعيدة، لكنّ مرارة نبرته كانت تفضح ندوبه الداخلية. لا نعرف ما إذا كان الإجهاد البادي عليه هو حصيلة المرض أو اليأس. المرض والمنفى ترافقا مع تراجع القضية الفلسطينية وانهيار الأوضاع العربية.
صاحب «ما بعد حرب الخليج» (أُنجز ضمن سلسلة أفلام عن الموضوع نفسه سنة 1993) متفائل بالربيع العربي الراهن، لكنّه يرى أن ما يحدث «لن يكتمل إلا إذا عانق فلسطين في النهاية». يقول إنه واصل الحوار مع عروبةٍ يأَّسته، وها هي تنتفض وتمنحه حيوية افتقدها طويلاً.
بعد فترة على إصابته بالسرطان، قرأ خبر محمد البوعزيزي في تونس. ثم وصله خبر تنحّي حسني مبارك في الليلة التي خضع فيها لعملية في القلب. يفاجئنا بأنه عاكفٌ على كتابة فيلم جديد من وحي الحدث العربي. «فيلم تسجيلي وروائي على طريقتي». سيكون عنوانه «رسالة من زمن القلب». لن يكلف كثيراً. أنا سأكتبه وأرويه». «خلص» ليس هو النهاية إذاً؟ «لا طبعاً» يجيب بسرعة، قبل أن يضيف: «خلص قد تعني خلص حلّ عني، أو خلص انتهى كل شي، أو خلص رح نبدأ من جديد».



5 توالايخ

1941
الولادة في أرنون ـــ جنوب لبنان

1973
تخرّج من معهد INSAS في بلجيكا. وفي العام التالي حاز فيلمه الروائي الأول «كفر قاسم» جائزة «التانيت الذهبي»
في مهرجان قرطاج

1982
أنجز فيلم «بيروت اللقاء» الذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين في السنة نفسها

2007
انتهى من فيلمه الروائي الثالث «خلص»، بعد سنوات من الانتظار

2011
يعمل على كتابة فيلم بعنوان «رسالة من زمن القلب» عن رؤيته للربيع العربي