يسمع بشغف الموسيقى الكلاسيكية العالمية، بعدما شجّعته أمه صغيراً على حبّ الموسيقى. يرتشف كوباً من الماء، ويتذكر ظهر ذاك اليوم البعيد من أربعينيات القرن العشرين. يضحك كطفل. لا، كتلميذ في المدرسة الإعدادية، ويقول: «عشقت آلة الكمان. كنا نتعلّم العزف عليها في المدرسة، واستهوتني. شعرت بأنني سأصير عازفاً لا مفر. اشتريت كماناً، لكنّ أمي طلبت منّي إبقاءه في المدرسة. لم أفعل ذلك. أخذته إلى البيت. وعندما رآه أبي، ثارت ثائرته. وقال لي: أخرج هذا الكمان من هنا. لا أسمح بوجود «مزّيكاتي» في بيتي. وانتهت هنا حياتي كعازف». اليوم، بعد مرور عقود على هذه الواقعة، يبدو أحمد أبو زيد مرتاحاً، وخصوصاً أنّ حلمه هذا انتقل إلى حفيدته عازفة البيانو شيرين».بنشاط شاب عشريني، يستيقظ هذا الرجل التسعيني الاستثنائي وأحد روّاد علم الأنثروبولوجيا في العالم العربي، فجر كل صباح ليتفقد بريده الإلكتروني: «نومي متقطع منذ فترة». في مسقط رأسه في الإسكندرية، كان يجلس منذ أشهر على مقعده الطبي أمام شاشة الكومبيوتر منتظراً النتيجة. إلا أنّ تاريخه العلمي الثقيل حسم لمصلحته بعدما نافس 14 عالماً وعالمة. صفّق الحضور في القاهرة بحرارة حين انتشر الخبر «جائزة النيل للعلوم الاجتماعية لعام 2011 للدكتور أحمد أبو زيد». هو قرأ النبأ في رسالة مهنئة على «الإيميل». ابتهج قليلاً، إذ كان قد حصل في السابق على جوائز وأوسمة رفيعة عدة، منها جائزتا الدولة التقديرية والتشجيعية للعلوم الاجتماعية (1968 و1992). لكن بهجته زادت عندما رآها ترتسم على وجوه الأبناء والأحفاد صباح يوم الأحد 26 حزيران (يونيو) الماضي.
كان أبوه تاجر الفحم الشهير خلال الثلاثينيات من القرن الفائت. كان يستورده لتشغيل السكة الحديد، لكنّه استسلم أمام عناد الابن الذي لم يحب أبداً التجارة. جده وأمه والإسكندرية «الكوزموبوليتانية» شكلوا وجدانه وحفروا رغبته في المغامرة والتنوع والانفتاح. هكذا، قرأ طفلاً كتب الفقه، وتبحّر في الموسيقى والأدب العالمي والتاريخ. وكان جده، ذو الثقافة الأزهرية، تاجر فحم أيضاً، لكنّه كان يعشق الموسيقى. ما زال أحمد أبو زيد يتذكّر جلسات العود «المبهرة» التي كانت تحييها فرقة من المكفوفين «كانوا أصدقاء جدي. لا أتذكر عددهم. كنت مطروباً بهم. كان الجميع سعيداً بسماعهم».
روحه الموسيقية هذه جعلته يحبّ الإنسانيات، فدرس الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة الإسكندرية (1944)، ثم حصل على البكالوريوس والدكتوراه في علم «الأنثروبولوجيا» من جامعة «أكسفورد» البريطانية (1953 ــــ 1956). ولم يتوقف عن العمل على مدى عقود طويلة، إلا في السنوات الثلاث الأخيرة، توقّف عن التجول حول العالم كرحالة ومستكشف ومؤلف ومترجم. كل هذه المهارات مكّنته من وضع أول أسّس لعلم الأنثروبولوجيا في الشرق الأوسط. إذ أنشأ في عام 1974 أول قسم أنثروبولوجيا في الشرق الأوسط في جامعة الإسكندرية تخرّج منه تلامذته الذين صاروا أساتذة معروفين في علم الإنسانيات في مصر والعالم العربي ودول
أخرى.
لولا مصرية أبو زيد وعالمثالثيته العنيدة، لما عرفت مصر وأفريقيا ابنها. خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، طلب منه أستاذه في «أكسفورد» البقاء في بريطانيا مدرّساً براتب كبير. قال له: «ابق هنا، فالحرب دائرة عندكم». لكنّ أحمد أبو زيد رفض قائلاً: «أردت لأولادي أن يتلقّوا تعليماً مصرياً». بعد سبع سنوات (1963) تجدد الإغراء الأوروبي، بعدما صار خبيراً في مكتب العمل الدولي في الأمم المتحدة في جنيف: «عرضت عليّ الدولة البقاء في سويسرا رئيساً لقسم عن القبائل، أنشئ خصيصاً لي. لم أقبل. عدت إلى مصر، وزوجتي اعتبرت ذلك أفضل، فالإنسان المصري يستحق. لقد أرهقه التاريخ، لكنّه ها هو يظهر أنّه الأكثر تحضراً في ثورته. أعتقد بأنّه لن يتراجع أبداً إلى ما قبل مرحلة 24 يناير».
الإيمان الأكبر في وعي أبو زيد يبقى للإنسان. منذ بدايته، انحاز إلى إنسان البلاد المظلومة، مؤمناً بقدرته الكاملة على فعل التطور والتقدم. وقد نشر عنه العشرات من الكتب القيّمة، والأبحاث المحكمة التي ترجمت إلى لغات عالمية. كان أغلبها عن جولاته في صحارى مصر وأفريقيا وآسيا. لكن أهم ما حفر في ذاكرة العالم المصري وقلبه رحلاته الميدانية في أغوار قبائل شرق وغرب أفريقيا (أوغندا، وكينيا، ونيجيريا، وسيراليون وجنوب السودان). هو يرى أنّ روح القبائل الأفريقية أكثر أخلاقيةً ورقياً من حضارة الرجل الأبيض «الذي جرف مصائرها»، وبنى حضارته باستنزاف هذه القبائل: «كل إنجازات الغرب هي من حق الإنسان الأفريقي لأنها من نتاج ثرواته البشرية والطبيعية. أتوقع في أي لحظة ثورة من العالم الثالث على الغرب».
الروح «الكوزموبوليتانية» التي نفختها فيه الإسكندرية، هي الإيقاع الرئيس لكل إسهاماته في العلم والثقافة والكتابة. على رغم غزارة إنتاجه العلمي (16 مؤلفاً، وثلاثة كتب مترجمة، و14 دراسة ترجمت إلى لغات عالمية )، شكّل أبو زيد إحدى أبرز الشخصيات التي أسهمت في تأسيس جامعة الكويت (1966) بعد استقلالها عن بريطانيا. وقد درّس علم الإنسانيات في تلك الجامعة، وأنشأ فيها أول قسم لعلم الاجتماع. ولأنه كان يهوى الصحافة مراهقاً، فقد أسّس في الكويت مجلة «عالم الفكر» (1970)، وأسهم مع آخرين في تدشين سلسلة «عالم المعرفة» وقد كتب أكثر من مئة وخمسين مقالة باللغتين الإنكليزية والفرنسية عن الهوية، والحضارة، والعولمة، وهو يكتب منذ سنوات مقالات في الصحف المصرية والعربية عن المستقبل، أبرزها زاويته «مستقبليات» التي تنشرها مجلة «العربي» بانتظام منذ سنوات عدة (2006).
بعد اندلاع ثورتي تونس ومصر، وانتفاضة شعوب عربية أخرى ضد القهر، لا يفرح صاحب جائزة النيل فقط لأنه عاش ورأى، بل لأن نظرياته العلمية عن الإنسان العربي أثبتها الواقع: «طول عمري، أقول إنّ هذا الإنسان سوف ينفض عن نفسه تراب الخرافة والغيبيات والجهل، ويتقدم. أنا واثق بقدرة الشعوب وعزيمتها. على هذا الأساس كرست حياتي لفكرة التقدّم».



5 تواريخ

1921
الولادة في الإسكندرية

1956
دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة «أكسفورد»

1966
أسهم في تأسيس جامعة الكويت

1974
أسس أول قسم للأنثروبولوجيا في الشرق الأوسط في جامعة الإسكندرية

2011
نال «جائزة النيل للعلوم الاجتماعية»