يبدو جابر علي أحمد واضحاً بجسده الممتلئ، في ركنه الأثير في مقهى «ساحة التغيير» في صنعاء، حيث اعتاد الجلوس كلّ مساء منذ انطلاقة ثورة الشباب اليمنية. وهو المكان الذي صار يفضّله للالتقاء بأصدقائه ورفاقه. هكذا، أصبح المقهى أشبه بحلقة نقاشية يجتمع فيها قدامى اليسار اليمني، وتتناول مواضيع قد تبدأ بالموسيقى، لكن لا تلبث أن تفتح على مواضيع شتّى.بعد دقائق من جلوسنا معه، أشار إلينا بأن ننصت إلى أغنية ثورية مأخوذة من قصيدة «الصمت عار» للشاعر عبد العزيز المقالح، كان صداها قد بدأ في الانتشار عبر مكبرات الصوت الموزعة على جغرافيا الساحة: «هذه واحدة من أربع قصائد لحنتها وقمت بتوزيعها لشباب الثورة.

وهي الآن متوافرة في أشرطة كاسيت وتوزع هنا». ويضيف جابر: «ما يحدث حتى الآن في الساحة يؤكد أن لا ثورة حقيقية من دون فعل موسيقي». لكنه يعود ليشير قائلاً: «حتى الآن، لم يتحرر هذا الفعل تماماً من قيود الماضي التي تفرض حصاراً على الموسيقى. لكن مواصلة هذا النهج سيبلور في النهاية آلية ثورية موسيقية خاصة».
يتكلم جابر علي أحمد بحماسة، فلا نجد صعوبة في التقاط النبرة الثائرة التي تبدو في صوته. تكاد تكون اللحظة نفسها التي قطع من أجلها صديقنا اليساري القديم طريقاً طويلاً، وعبر فيها أكثر من حياة وسجن. بدأت الحكاية في بيت لم يكن يخلو من الموسيقى والموشحات الدينية، يؤدّيها شقيقه الأكبر الذي كان يجيد العزف على آلة العود. هنا فتح جابر عينيه. ولع الشقيق الأكبر ما لبث أن انتقل إليه، وتعمّق فيه إلى درجة لم يعد يستطيع التخلص منه. ولع أخرجه إلى الشارع للغناء والعزف، كيفما اتفق أولاً، لرفاق الحارة ثم المدرسة... ليصير بعد ذلك نجم حفلاتها الطلابية.
تبدو الحياة هنا كأنّما تمنح للفتى الأسمر هداياها بسخاء، وبلا حساب. كبرت حكاية الموسيقى في عقله، وقرّر السير على الدرب حتى النهاية. لكن الحياة نفسها لا تمضي كنهر هادئ: «لا منح دراسية في الموسيقى. لا حمل للبلد على هذا الترف»: تلك الإجابة الحاسمة من مسؤول في السلطة، كانت العقبة الأولى على الطريق الطويل. «طلبوا منّي أن أقبل بشيء آخر مما هو معروض. دمشق مثلاً ومنحة لدراسة الفلسفة. وسافرت إليها ودرست في جامعتها، لكن الموسيقى ظلّت في داخلي» يقول جابر. كانت فترة خصبة وثرية عاشها الشاب التهامي دارساً الفلسفة في قاعات الكلية صباحاً، وعازفاً ومغنياً ملتزماً في حفلات الجامعة.
تظهر على صديقنا حالة جامحة من الحنين عندما يحكي تفاصيل أيامه السورية. كأن دمشق التي تعيش اليوم مخاضها الصعب، تحاصره بذكرياتها من كل صوب: «كان من هدايا القدر لي أن درست على يد الطيب تيزيني، ونايف بلوز. تأثرت بهما كثيراً من خلال تميزهما في إثارة القاعة الدراسية بقضايا جدلية كانت تستهوينا كثيراً، نحن كتيبة اليسار الجديد وقتذاك».
وفي دمشق أيضاً، سيلتقي جابر بالشاعر اليمني عبد الله البردوني خلال إحدى زياراته لعاصمة الأمويّين من أجل طباعة كتبه ودواوينه الشعرية. «تكونت بيننا علاقة روحية جعلتني أقدم على تلحين عدد من قصائده ومنها: «إلا أنا وبلادي»، و«مواطن بلا وطن» اللتان سجلتهما وانتشرتا سراً بين الطلبة».
شيئاً فشيئاً توسّعت شبكة علاقاته وتوطّدت، والتحق بأحد التيارات اليسارية المكوّن من عدد من الطلبة اليساريين العرب. ذاع اسمه بينهم مغنياً للأعمال الشعرية الممنوعة لعدد من شعراء المقاومة. طريق جديدة لا تفضي ـــــ طبعاً ـــــ إلى النهايات السعيدة؛ إذ سرعان ما قُبض عليه مع عدد من الطلبة البحرينيين الذين كانت تربطه بهم علاقات صداقة متينة. أقام لفترة معهم في أحد المعتقلات ليُرَحَّلوا بعد ذلك إلى بغداد. كان ذلك قبل أشهر قليلة من ختام سنته الدراسية الأخيرة: «خرجت بلا شهادة، ولا أمتلك فلساً واحداً في مدينة لا أعرفها، فما العمل؟»... جاء الحل حين اقترح عليه رفيق بحريني أن يأتي معهم إلى القاهرة، وهكذا كان. هناك (1978)، بدأت رحلته العلمية مع الموسيقى طالباً في المعهد العالي للموسيقى العربية، وفتحت له الحياة قلبها مجدداً.
تخرّج أول على دفعته، ما كان يؤهله للبقاء والعمل معيداً في المعهد. لكنه فضّل العودة إلى الديار: «لم تراودني فكرة الهجرة والابتعاد عن اليمن مطلقاً، مع أنها كانت متاحة على الدوام». هذا لأنه من أنصار المنهج الثقافي العضوي، القائل بأن الفرد لا يمكن أن يكون فاعلاً ثقافياً إلا في محيطه الاجتماعي الثقافي.
حين عاد إلى اليمن (1983)، عمل على تأسيس أوّل فرقة موسيقية في مدينته الحديدة، واشتغل على عدد من الأعمال الاستعراضية الموسيقية. «كان العمل صعباً في بيئة غير متصالحة مع الموسيقى. لكن كان على أحد ما أن يضع الطوبة الأولى»، يقول جابر الذي ذهب بعد ذلك ليثبت اسمه عربياً من خلال المشاركة في ندوات علميّة تعرّف بالفن اليمني. «كان يشغلني أمر التعريف بخصوصية الموشح اليمني، وفرادة بنيته الشعرية والموسيقية إلى جانب إيقاعاته وأنساقه المقامية الخاصة». وهو ما تحقق له في عام 1985 من خلال مشاركته في ندوة موسيقية في تونس برعاية «المجمّع العربي للموسيقى».
خلال كل هذا، لم يفت صديقنا أن يخلق صلة وصل بين الثقافة الموسيقية والقارئ العادي، عبر مساهماته المنتظمة في عدد من الصحف الحكومية الواسعة الانتشار: «مقالات تعمدت كتابتها بتبسيط كي يفهمها القارئ العادي». وكانت هذه بمثابة مقدمة لإنشاء نواة مكتبة موسيقية يمنية. وفي عام 1997، صدر أول كتبه «حاضر الغناء في اليمن». وبعده بسنوات، جاء كتاب «من المشهد الموسيقي اليمني» (2007)... وآخر إصداراته «تيارات تجديد الغناء في اليمن» (2009)، وفيه يناقش فيه واقع الأغنية المحلية التي خضعت لعدد من المؤثرات، كالتأثر بالمرجعية الشعبية اليمنية، والتأثر بالغناء التقليدي، إضافة إلى التأثر بنمط الغناء الآتي من مصر. اليوم، ما زال اليساري اليمني القديم دائم الانهماك بالشأن الموسيقي المحلي. يسكنه هذا التراث الحيّ الذي سعى إلى الحفاظ عليه من خلال تأسيس «مركز التراث والموسيقى اليمنية» (1999) المتخصص في التوثيق والأرشفة الموسيقية، وإصدارها من خلال أقراص مدمجة تقيها خطر الضياع والتلف والتشتت بين دول الجوار.
لكنّ إحساساً بالجدوى يتسلّل أحياناً إلى نفْس فناننا. كلّ الجهد الذي بذله هو وآخرون لا ينفع، ما لم يُعَد الاعتبار إلى مادة التربية الموسيقية في المدارس اليمنية: «موسيقانا تشهد حالة من التدهور والانحسار والضياع. يكفي غيابها عن المناهج المدرسيّة ليقول لنا هول الكارثة المقبلة. من يصدّق أن اليمن لا يمتلك معاهد موسيقية، ولا كليات، ولا إنتاجاً فكرياً موسيقياً؟». مع ذلك، لا يقطع جابر علي أحمد الأمل، ولا يغلق أبواب النجاة نهائياً: «أعوّل على هذه الثورة كثيراً في تغيير مفاهيم بالية عن الموسيقى تستبدّ بالذهنية الرسمية منذ دهر»... يؤمن الرفيق جابر بأنّنا محكومون بـ(العزف على أوتار) الأمل !



5 تواريخ


1951
الولادة في منطقة المراوعة ــــ الحديدة
(غرب صنعاء، اليمن الشمالي سابقاً)

1984
تأسيس الفرقة الموسيقية الأولى
في الحديدة

1999
تأسيس «مركز التراث والموسيقى اليمنية» الذي ما زال يديره إلى اليوم

2006
أغنيته «إلا أنا وبلادي»
(شعر عبد الله البردوني)
منعت من التداول في اليمن

2011
يعمل على مشروع جمع أغنيات
وهدهدات الأطفال، لتوثيقها ونشرها
على أقراص مدمجة