وقعتْ من كتاب قديم في مكتبتي ورقة سينما زهريّة وحمراء قَلَبْتُها فرأيتُ على جناحيها بضعة أسطر بخط يدي. وطُبع على الوجه «سينما الحمراء، بلكوني، 6 ونصف (الساعة) رقم 19479، 175 قرشاً لبنانيّاً». ومعها ختم وزارة الماليّة. لا سنة. لا شيء آخر. الأرجح منتصف الستّينات. ماذا كنتُ أفعل هذا الوقت في السينما وهو وقت عملي؟ كنتُ هارباً من العمل. الهروب كان يحصل في الأغلب إلى مقهى الهورس شو، هذا التعريج على السينما في السادسة والنصف حالة استثنائيّة. هروبٌ مضاعف.الجناحان الخلفيّان مرقّمان 3 و4، أي أن 1 و2 ورقتان عاديتان لم تكفيا فأكملت الكتابة في الظلام على قفا ورقة السينما. هذا هو المكتوب: «الواضح في طفولة خطواتي
العاصف بأوراقي
الواثق بطهارتي
الصامد على طهارتي
البادئ من سقوطي
الصارف بأسناني
المطمئنّ بواجهتي الخدّاعة
الساكر بِرَوْبة دمي»...
أجهل إذا كان هناك تتمّة والأرجح لا. كثيرٌ من هذا كنتُ أفعله تحت تأثير خاطرة ثم أرميه. لم أكتب في المقاهي إلّا قصيدة «ماذا صنعتَ بالذهب ماذا فعلتَ بالوردة». القسم الأوّل منها، وتوقّفت لأنّي تخيّلت الجالسين يتمسخرون على أبي السكسوكة هذا العامل حاله مأخوذاً بالوحي. أكملتُها في غرفةٍ لا تدخلها الشمس.
سينما الحمراء. الآرمة لا تزال محلّها. روّاد الشارع يتنزّهون فيه بشغف انتقاماً من بشاعات بيروت. نحن، روّاده أيّام فتوّته، نسير فيه كما سار امرؤ القيس بأطلاله، نتفرّج على المستمتعين به من الشبّان اليوم كما تتفرّج أرواح الموتى على الأحياء.
سينما الحمراء. الحمراء. أحد أسباب جاذبيّة الشارع الأسطوريّة إيحاءات اسمه. الحمراء. الليالي الحمراء. ستائر المسرح والكباريه الحمراء. السجادة الحمراء. الوردة الحمراء. الحريّة الحمراء. قصر الحمراء. الشيوعيّة الحمراء. لم أرَ في لندن ولا في باريس ولا في روما صبايا بالميكروجوب كما رأيتُ في الحمراء، ولا عيون رجالٍ حمراء من الرغبة كما رأيتُ في الحمراء، ولا شَبَقاً في هواء، ولا حيويّة في سوق، ولا بهجة في عيد، ولا اختلاط أعراق وأعمار وأذواق وأديان ولغات كما رأيت في الحمراء.
كانت الحمراء مركب المراكب ومعرض المعارض. كانت عروس بيروت التي كانت عروس العرب. والذي كان شغله في الحمراء، مثلي، لم يكن يشعر أنه يعمل بل انه في إجازة.
كان البحرُ في الحمراء والجبلُ في الحمراء، والعرب والعجم والجهاد والفساد. لم يفعل فنّانوها أجمل من جلوسهم على أرصفتها. وعندما كانت الحمراء تنام كان روّادها ينامون وهي بينهم وبين حبيباتهم.
رفقاً بأشباحنا في الحمراء أيّها الجدد. لا تصدّق أن لكلّ زمن حمراءه: هناك أزمنة تنطوي بانطواء أماكنها وأماكن تنطوي بانطواء زمنها. كانت الحمراء شارع نهاية الصبّير وشارع بداية الدم الحر، دم اختلاط الدماء، دم المستقبل. الحمراء هي هذا الدم. كانت منارة وحيدة الإشعاع فوق بحرٍ لم يألف غير منائر الأزقّة. أعيدوها أيّها الجدد، أعيدوها لكم ولأولادكم، تَدفّقوا عليها واملأوها كالسيل والنَحْل. لم يكن هذا شارعاً، كان وطناً.


«كلّهم شهداؤنا»

تتسابق الطوائف اللبنانيّة إلى الاستشهاد بشهدائها. كلّ واحدةٍ تتباهى بمقاومتها. ولكلٍّ منها عدوّه.
القلب لا يتلقّى أوامر العداوة، والعقل يُصدَّق ولا يُقْنِع. وجداناتُ اللبنانيّين معجونة بأنواعٍ متضاربةٍ من الحنطة.
منذ دهور والمسيحي اللبناني يتخوّف من حكّام سوريا، وله أعذاره الدامغة. منذ دهور والسنيّ اللبناني لا يوالي إلّا السلطنة السنيّة. منذ دهور والشيعي اللبناني حائر ينتظر دوره، وأخيراً جاء دوره ليعتزّ بالجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وبجاره العلوي، فضلاً عن أنسبائه في العراق.
كلّ فريقٍ من هؤلاء صادقٌ في الحديث عن مقاومته. أمّا الثابت منهم فيها، على ما تدلّ الأزمنة، فهو المسيحي، وبالتحديد الماروني، في توجّسه من الحاكم السوري، حتّى لو كان والياً عثمانيّاً أو ما قبل بعصور، والشيعي في توجّسه، قبل النظام السوري الحالي وقبل صعود إيران، من الجميع. أمّا السنيّ الذي يعارض اليوم الحكم السوري فسيعود إلى موالاته متى عاد هذا الحكم إلى «عروبته» السنيّة، وعندها من الطبيعي أن تبتعد الجبهة الشيعيّة في لبنان عن حكمٍ سوريّ لا يعود يزكّيها كما يزكّيها (وتزكّيه) الحكم الحالي.
هذه طوائفنا عموماً، تشذّ عليها بين الحين والآخر شخصيّاتٌ طوباويّة تتبنّاها الطوائف الأخرى ما دامت تنتقد طائفتها.
وطنيّو هذه الفئة ليسوا وطنيّي تلك. عندما يقول أحدهم «كلّهم شهداؤنا لأنّهم جميعاً لبنانيّون» فهذه مجاملة. لم يتكتّل اللبنانيّون عاطفيّاً جبهةً واحدة ضدّ عدوّ واحد. المسيحي يعرف أن اليهودي يكره المسيحيّة ويسمع ما يقال له ان العدوّ السياسي والاقتصادي والثقافي الأوّل لإسرائيل في الشرق الأوسط هو لبنان ومع هذا لم تنجح هذه الحقيقة في القضاء على توجّسه من حكّام سوريا. كلّ معالجة داخليّة (أو خارجيّة) لموزاييك الأوضاع اللبنانيّة لا تنظر بجديّة إلى هذا الواقع معالجة عابرة.
بانتظار نشوء دولة أقوى من الفئات تفرض عليهم، بالسطوة والبرهان، توحيد المفاهيم العليا، دولة تختصر ميول الجميع وتتمكّن من صهرها في روحٍ واحدة يتقبّلها الجميع. حلم راود الأذهان، ولا أحد يعرف، إذا أمكن تحقيقه، ماذا سيبقى من لبنان.

■ ■ ■

قول الأمور هكذا ببساطتها خروجٌ على أدبيّات السياسيّين بعدما أصبحوا ملوكاً في المراوغة. عذراً من كلمة أدبيّات. ومن كلمة ملوك. ومن فعل أصبحوا، فالواجب أن نقول أمسوا. وعذراً من المساء. سيطلع غداً واحد يستغرب هذا التصنيف. «كلّهم شهداؤنا» سيردّد. كان النفاق في حجم الجرائد، وبعد التلفزيون صار في حجم العالم. يجب أن يتمكّن جميع اللبنانيّين من الهجرة. لا هرباً من إسرائيل ولا من «حزب الله» ولا من أميركا ولا من سوريا ولا من التسمّم بالأكل ولا من المستشفيات والدرّاجات ومواكب الزعماء، بل من الكذب.


كشف حساب

كتبتُ كغيورٍ وكتبتُ كضيفٍ لم يُدْعَ
كتبتُ لأدخّن
لأنّي مسيحي بين مسلمين
لأنّ نفسي أضيق من أن تحتشم
لأنّ أحداً اشتغل سرّي به
كتبتُ كي احتال على العتمة
كي أظلّ رضيعاً
كتبتُ لأنّي أقرأ
لأقتل أعداءً وأستغفر أبرياء
لأضيّع الزمن الكثيف
لأتعلّم
لأنْ لا عقابَ على الجريمة
لأُخفي أشياء
كتبتُ لأنّ هذه هي موسيقاي
كتبتُ لأنّي أحببتُ كثيراً.



عابرات

لا نزدَرِ الهارب، هنيئاً له، فما زال قادراً على الركض!
■ ■ ■
تسهرين في انتظار صباح قلبكِ كما تسهر شجرةُ اللوز لاستقبال الربيع.
■ ■ ■
وجدتُ قلقاً في عينيكِ لم أجده في كتب الفلاسفة عن القلق. وعيناكِ لا تكذبان.
■ ■ ■
في هذه اللحظة، طَرْقٌ على الباب سيكون معجزة. وفي اللحظة التالية أيضاً. الوقت يَبْتلع كاللانهاية حين يتخلّف الزوّار.
■ ■ ■
تنوجعين بعد الانفصال لأنّكِ لمّا أحببتِ انقَطَعْتِ عن نفسك، ونَدَمُكِ المتأخّر على هذا الانقطاع هو ما يوجعكِ لا انفصالك عن الحبيب.
■ ■ ■
مَرَّ بي شخصٌ هالني فحيحُ نميمته حتّى رأيتُ الهواء وباء.
■ ■ ■
تعظّمتُ بفمي يوم كانت عيناي ضيّقتين، دعني أتخشّع به يوم اتّسعتا.