كثيرة هي المعطيات التي دفعت إيدير خلال عقد السبعينيات إلى الذهاب إلى الصحراء الجزائرية، حيث عمل مهندساً في حقول البترول. لكن المصادفة والموهبة وحدهما قلبتا قدر هذا الرجل ومصيره، ونقلتاه من قرى بلاد القبائل النائية إلى واجهة الساحة العالمية. هكذا، صار في ظرف قصير واحداً من أشهر المغنين الجزائريين في الخارج وأبرز وجوه التجديد في الأغنية الأمازيغية.طيلة مسيرة فنيّة امتدّت على ثلاثة عقود، لم يصدر إيدير (اسمه الحقيقي حميد شريت) سوى عدد قليل من الأسطوانات. لكنّ كلّ واحدة منها شكّلت حدثاً حال صدورها، ومنحت المغني والملحّن وكاتب الأغنيات شهرة تخطّت الحدود، مانحة إياه لقبي «سفير الثقافة الأمازيغية» و«حكيم الأغنية الجزائرية». «لا أرى أنّ عدد الأسطوانات التي أصدرتها قليل. صراحة، أؤمن بأنه إذا لم يكن لديّ ما أقوله، فمن الأفضل أن أصمت». الظهور من دون مناسبة لا يليق بإيدير الذي يضيف: «لم أختر طريق الموسيقى، لكنّ المصادفة أخذتني في هذا الدرب».
بعدما ولد وكبر في قرية آيت لحسن في منطقة القبائل، حلّ الصغير حميد على الجزائر العاصمة عام 1969 لمواصلة دراسته في إحدى الثانويات التي وضعتها المصادفة بالقرب من مقر الإذاعة. هناك، شرع في مداعبة القيثارة وارتجال بعض الألحان، قبل أن يجد طريقه إلى الجمهور من دون سابق إنذار. يستحضر ذكريات البدايات قائلاً: «في إحدى المرات، كانت هناك مغنية شابة مدعوّة لإحياء إحدى الحلقات الإذاعية. ولكن، يوم تسجيل الحلقة، أصيبت بوعكة صحية وتعذّر عليها الحضور.
هكذا استنجد بي المنتج الذي كان يراني أجلس وأداعب القيثارة على الرصيف. قبلت العرض، لكنّني فرضت عليه إخفاء هويتي. واخترت لحظتها بسرعة لقب إيدير». وقتها، قدّم إيدير على أمواج الراديو أغنية «ليهبط النعاس» التي سيدرجها لاحقاً في أوّل ألبوماته. وجاءت المفاجأة مع العدد الهائل من مستمعي الإذاعة الذين طلبوا إعادة بثّ الأغنية مراراً وتكراراً، ما منح صاحبها شحنة وطاقة على بدء مشواره الفني. حينها، لم يكن أحد يعرف أن خلف اسم إيدير يتوارى شاب يافع ما زال طالباً في الثانوية، بمن في ذلك عائلة المغني التي انتظرت لشهور قبل أن تكتشف الحقيقة. «والدتي كانت تريدني أن أصير طبيباً أو جراحاً. أما الغناء، فكان مهنة غير مرغوب فيها». بالنظر إلى الطابع الاجتماعي التقليدي الذي كان يسود مدن منطقة القبائل وقراها، حيث تغلب أنماط التفكير المحافظة، كان يصعب ــــ لغاية الثمانينيات ــــ إقناع الآخرين باختيار نهج الفن والغناء، وخصوصاً بالنسبة إلى النساء، إذ اضطرّت معظم المغنّيات القبائليات إلى تبنّي أسماء مستعارة وإخفاء أسمائهنّ العائلية.
في عام 1975، وصل إيدير إلى باريس في فترة كانت تشهد فيها عاصمة الجنّ والملائكة حضوراً مميزاً لليسار وانفتاحاً على الآخر. هناك، وقّع أوّل عقد له مع شركة الإنتاج «باتي ماركوني». وبعد عام أي في 1976، أصدر أولى أسطواناته التي حملت عنوان A Vava Inouva (يا أبي إينوفا) وحقّقت انتشاراً لم يكن يتوقعه المغني ولا المنتج، وخصوصاً الأغنية التي حمل الألبوم عنوانها. إذ كانت مستمدة من أسطورة شعبية أمازيغية، حيث يسرد المغني حوارية تجري بين أب وابنته التي تدعى غريبا: «أرجوك يا أبي إينوفا افتح الباب/ آه يا ابنتي غريبا دعي أساورك ترجّ/ أخشى وحش الغابة يا أبي إينوفا/ أنا أيضاً أخشاه يا ابنتي غريبا/ الشيخ يتلفع البرنوس ويتدفأ/ والابن حائر في سبيل كسب القوت اليومي (...)».
هذه الأغنية التي تشكّل رمزاً في الثقافة الأمازيغية، طافت اليوم أكثر من سبعين بلداً، وتُرجمت إلى 15 لغة. لكن، مع بداية الشهرة ودخول النجومية من الباب العريض، استُدعي إيدير لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية لمدة سنتين. جاء ذلك بعد تخرّجه من الجامعة بشهادة مهندس دولة في الجيولوجيا.
مع نجاح أولى محاولاته في الغناء، اعتقد بعضهم أنّ إيدير سينصرف كلياً إلى التأليف الموسيقي والغناء. لكن صاحب «الباحثون عن الضوء» بقي يتعامل مع الموسيقى على اعتبارها هواية، رغم نجاح أغنيات أخرى كثيرة أصدرها، مثل «السندو» (ممخضة اللبن) التي لاقت انتشاراً واسعاً. وهي أغنية تنقل بعض العادات الاجتماعية في منطقة القبائل، إضافةً إلى أغنية Zwit Rwit (الزيت رويت).
في عام 1979، أصدر ألبومه الثاني الذي حمل عنوان «إلى أبنائي»، تلته عام 1993 أسطوانة «الباحثون عن الضوء» الذي تناول فيه مواضيعه الأثيرة كالحبّ والحرية والمنفى والانتماء والهوية. أما «هويات» (1999) فجمع فيه فرقتي «ڤناوة ديفيزيون» و«زبدة». فيما سبق ألبومه «فرنسا الألوان» (2007) النقاش الدّائر حول مسائل الهوية والاندماج في فرنسا وجمع فيه مختلف الطوائف العرقية والفنية الموجودة هناك. شارك في العمل الكثير من المغنين الفرنسيين والعرب المغتربين، أمثالGrand Corps Malade، SINIK، وكنزة فرح وزاهو. يعرّف إيدير فضاءه الفني بالقول: «أضع نفسي في خانة موسيقى العالم، رغم أنّ بعض الفنانين يتحرّجون من هذه التسمية».
إيدير إحدى الشخصيات القليلة التي تحظى بحالة إجماع بين الجزائريين. وقاره واحترامه للفن منحاه حبّ الآخرين واحترامهم. يصرّ على مواصلة خيار الالتزام ويصرّح: «لا بد من أن نعرّف ماذا نقصد من وراء كلمة التزام. بعضهم يأخذ الكلمة ضمن سياقها التهكّمي. لكنني أعتقد أن الالتزام موجود في كل لحظة، وفي كل مكان».
التزام إيدير طيلة أكثر من ثلاثين سنة تمثّل في الدفاع عن الثقافة البربرية وحقها في الوجود، مع تشبثه بطرح قضايا الراهن الأكثر أهمية، مثل الهوية، والمنفى والعلاقة مع أرض المنشأ. كما شارك أخيراً في حفلة ضخمة في باريس، بالقرب من برج إيفل الشهير، حملت شعار «ضد العنصرية». ومع تواصل انتشار اسم المغني وأعماله في الخارج، يبقى عشاقه في الداخل في انتظار عودته إلى الجزائر وإحياء أولى حفلاته، وخصوصاً بعدما أقرّت الجزائر باللغة الأمازيغية لغةً رسمية منذ عشر سنوات.



5 تواريخ

1949
الولادة في قرية آيت لحسن في منطقة القبائل (شرق الجزائر العاصمة)

1976
أسطوانة «أبي إينوفا»

1979
أسطوانة «إلى أبنائي»

2007
أسطوانة «فرنسا الألوان»

2011
مشاركة في حفلة غنائيّة ضدّ العنصريّة في باريس