تحت شجرة الجوز الهرمة أمام منزل العائلة في منطقة جل الديب، حاصرت الدموع موريس عقل (1942) ما إن التفت إلى الوراء، وأبحر في الذاكرة. هو غير راضٍ تماماً عما أنجزه في حياته، لكنّه يرى أنّ «الظروف» لم تسمح له بالمزيد. الصبي الذي حلم بمضاهاة عبد الحليم إنتاجاً وألقاً، لم يتمكن من إصدار ما يزيد على أربع أغانٍ طوال مسيرته الفنية، بينما قضى الشطر الأكبر من حياته وهو يغني في المطاعم والحانات حتى اليوم. بين هذين الحدين، اجتهد محقّقاً طفرات أوصلته إلى الخشبة الرحبانية.
خلال سنوات الطفولة المبكرة في منطقة جل الديب، كان الوالد السكرتير في مكتب محاماة، يقيم في منزله سهرات لحلقة ضيقة من الأصدقاء. في تلك السهرات، كان ابن أخيه العواد المتواضع، يدندن ما يتقنه من ألحان لمحمد عبد الوهاب. شيء ما في العود راح يخاطب الصبي موريس. كان يهبّ من نومه مهلوساً، فيزجره الوالد. كنبات الصالون ذات المساند الخشبية المفرّغة من الداخل، تشهد على أولى محاولاته الموسيقية التي كان الوالد يواجهها بالزجر أيضاً. الوالدة سيدة المنزل، لم يكن موقفها من الفن أفضل حالاً. لم تكن تريد لابنها الاختلاط بـ«الأرتيستات». إلا أن كل ذلك لم يمنع الولد من شراء آلة عود، والتدرب عليها «على السمع».
بعد وفاة الوالد، شاءت الظروف المادية المتعثرة للأسرة ألا يكمل موريس دراسته. لم يترك المراهق مجالاً إلا عمل فيه. جرّب كلّ المهن: خياط، وبائع برادات، وسائق سيارة أجرة، وعامل في معمل شوكولا. في أحد تلك الأماكن، وتحديداً صالون تزيين نسائي، وعده زميله الموهوب بأن يصطحبه معه إلى امتحان الإذاعة اللبنانية، لكنه أخلف بوعده. كان ذلك الصديق هو المطرب سمير يزبك. إلا أن صديقاً آخر وعد ووفى: ريشار، اصطحبه إلى «المعهد الوطني العالي للموسيقى» (الكونسرفاتوار) حيث يعمل والده مدرّساً لآلة الكونترباص، وشجّعه على التقدم لامتحان الدخول. هناك، رغم «لحظات الرعب الطويلة أمام لجنة من جهابذة الموسيقى اللبنانيين»، تخطى موريس الامتحان الصعب: في الأداء، ساعده التدريب الذي تلقاه خلال السنوات الماضية بعد انتسابه إلى جوقة الترتيل في الكنيسة. أما في العزف، فقد فوجئ أعضاء اللجنة باللحن الذي يؤديه منساباً متقناً، رغم أنّ موريس لم يكن يحسن الإمساك بالعود من الناحية التقنية والحِرَفية. هكذا، التحق بالكونسرفاتوار مستمعاً؛ لأن عمره الذي تخطى الثامنة عشرة لم يكن يسمح له بأن يكون طالباً نظامياً وينال دبلوماً.
لم يفوّت موريس باباً فُتحَ له للدخول إلى عالم الفن. حين اقترح عليه المخرج روبير عطا الله في منتصف الستينيات الاشتراك معه في مسرحية يعدّها بعنوان «صراع الأجيال»، أثمر التعاون بينهما مسرحيات عدة كان الهدف منها ـــ بالنسبة إليه ــــ خلق ممر للتعرف إلى الجمهور، بهدف التوصل أخيراً إلى إتمام مشروعه الموسيقي.
أما دخوله الكونسرفاتوار في عام 1969، فقد كان مرحلة جديدة من الاحتراف. إلى جانب مشاركته المتواضعة في الكورس مع الموسيقي الراحل وليد غلمية خلال افتتاح مهرجانات جبيل عام 1971، أثمرت مشاركاته المتتالية في مسرحيات «الرابطة الاجتماعية في جل الديب» أول دور رحباني له. الرابطة كانت تستعيد مسرحيات الأخوين رحباني بالاتفاق معهم وبحضورهم. ومثل كثيرين من مجايليه من أبناء جل الديب (بيار جاماجيان، ومادونا، وطوني حجل)، فتحت له تلك المشاركات باب الاحتراف. كان ذلك حين أدى دور «هبّ الريح» في مسرحية «هالة والملك» على خشبة مسرح الرابطة. يومها، تبعه زياد الرحباني إلى الكواليس ليتأكد بنفسه إن كان الممثل سكراناً فعلاً؛ إذ إنّ هب الريح يظل سكراناً طوال المسرحية. وحين تأكد من العكس، هنأه على الأداء، وكافأه عليه لاحقاً بدور في مسرحيته الأولى «سهرية» (1973). في تلك المسرحية، حقّق موريس خطوة باتجاه عبد الوهاب، ولو كان ذلك بصيغة كوميدية: يغنّي «يا جارة الوادي» مدعياً أن عبد الوهاب سرقها منه!
بعدها بعام، في مسرحية زياد «نزل السرور»، سيؤدي موريس شخصية الملحّن «قيصر»، إلى جانب الراحل جوزيف صقر. «عرّم يا قيصر... دخول ع التاريخ يا قيصر»، يقول له رفيقه عشيّة اندلاع «الثورة» على يد عبّاس وفهد... في تلك المسرحية، يؤدي أغنية ستحافظ على راهنيتها طوال سنوات الحرب المقبلة: «يا نور عينيا...»، وأخرى ستصبح من الكلاسيكيات «طلّي اضحكيلو يا صبية». خلال تلك المسرحية أيضاً، سيوصل زياد رسالة إلى موريس، مفادها أن «والده وعمه يريدانه أن يعمل معهما».
فرصة قفز لها قلب الشاب فرحاً، ودق بسرعة خوفاً، إلى درجة أنّه لا يزال يذكر كيف «عجزت في البدء عن تسجيل أغنية «يا لور حبك» (في مسرحية «ميس الريم») لشدة الرهبة التي شعرت بها أمام عاصي وفيروز ومنصور الذين كانوا حاضرين في الاستوديو». بعد مسرحية «ميس الريم» (1975)، سافر موريس كثيراً مع الرحابنة، في جولات حفلات فيروز، حتى عام 1987. كذلك، أدى أدوراً صغيرة في مسرحياتهم اللاحقة مثل «المؤامرة مستمرة» (1980) و«الربيع السابع» (1984).
ظلّ إنجاز الأغنيات الخاصة حلماً مؤجلاً بالنسبة إلى موريس عقل؛ إذ إنّ الشاب مسؤول عن إعالة أخته ووالدته، والأغنية كانت تكلف نحو 3000 ليرة في حينها. بدل الأغنيات الخاصة، عمل موريس ـــــ ولا يزال ـــــ في حانات ومطاعم في لبنان وفي الخليج. إلى جانب ذلك النشاط الأساسي، ظل يعمل في المسرح كلما أتته الفرصة. شارك في عمل كريم أبو شقرا «بلد لذيذ» (1986). وفي «قاووش الأفراح» (1983) للمخرج أنطوان غندور، أدى دور البطولة الذي رشحه لتأديته الفنان إيلي شويري بسبب عجزه عن تقديمه بنفسه.
أحياناً، كان موريس ينهي عمله في المسرح ويذهب لأداء الأغاني في الحانة التي يعمل فيها. هكذا، نجح في جمع بعض المال، ما أتاح له تسجيل أربع أغنيات خاصة بعد تلك المسيرة الطويلة: اثنتان من كلمات إلياس ناصر وتلحين الراحل عازار حبيب، هما «طرب بدوي» و«عالماشي التفتت فيي»، وواحدة من كلمات وألحان نقولا الديك بعنوان «أنا لما تعلقت بعيونك»، والأخيرة من كلماته وألحانه هو بعنوان «شموعي يا قمر». وقد سجّل كل هذه الأغنيات في «استوديو بعلبك» عام 1986، وكلفته يومها 40 ألف ليرة بالمجمل، لكنّها أراحته قليلاً. موريس هو واحد من رجال الظل المهمّين في المشهد الفنّي اللبناني. في نهاية الأمر، صحيح أنه لم يقدّم سجلاً حافلاً من الأغنيات... لكن هذا الإنجاز الذي حقّقه من لا شيء، هو مفخرة شاب عصامي حالم من جل الديب.



5 تواريخ

1942
الولادة في جل الديب ـــ محافظة جبل لبنان

1969
دخل «المعهد الوطني العالي للموسيقى» (الكونسرفاتوار) كمستمع

1973
أدى دوره التمثيلي الغنائي الأول في «سهرية» لزياد الرحباني

1986
سجل في «استوديو بعلبك» أغنياته الأربع اليتيمة الخاصة. وفي 1975، شارك مع عاصي الرحباني في مسرحية «ميس الريم»، مؤدياً أغنية «يا لور حبك»

2011
يقدم في 6 آب (أغسطس) المقبل حفلة في كنيسة «مار غابرييل» في عجلتون