سيرة أحمد بيضون هي سيرة خروج ومغادرات. كأنّ ولادته أوائل الأربعينيات في بلدة بنت جبيل الجنوبية، كانت إيذاناً للصبي الخجول والمنطوي على نفسه، بالبحث عن منافذ للتعويض عن حضوره الموارب. البداية كانت مع قصص عالمية للأطفال، ومؤلفات جبران والمنفلوطي، وروايات بوليسية وخيال علمي في مكتبة المدرسة، قبل أن يعثر في بيت خاله الشاعر موسى الزين شرارة على «الشوقيّات» لأحمد شوقي، وديوان الشاعر القروي. كان للشعر المطبوع وقع أشدّ من سماعه في مضافة منزلهم. هكذا، بدأ بكتابة قصائد وطنية وغزليات وهو في العاشرة، وشارك في مهرجانات محليّة احتفالاً بتأميم قناة السويس وثورة الجزائر. الحماسة السياسية أشركته في التظاهرات أيضاً. الكتب والقصيدة والمظاهرة، كانت ملاذات من حياة يومية ساحقة لفتىً لم يكن راغباً ولا قادراً على مجاراة طقوسها الثقيلة.يتذكّر صاحب «ما علمتم وذقتم» أنّ مجرد دخول شخص قبل آخر كان خاضعاً لشكلياتٍ مبنيّة على هرمية اجتماعية صارمة. ضجره من الولاءات سيدفعه لاحقاً إلى رفض العودة من باريس للمشاركة في الحملة الانتخابية لوالده الذي صار نائباً سنة 1964. الخروج على البيئة الأولى احتاج إلى وقودٍ متحصّل من تفوقٍ في الدراسة، تلاه سعيٌ دؤوب إلى التفوق على الذات. التفوق الأول توِّج بشهادة فلسفة من «الجامعة اللبنانية» أمّنت له منحة لدراسة الدكتوراه في جامعة باريس، بينما أشعره التفوق الثاني بالعجز عن المتابعة. سجل أطروحته بإشراف البروفيسور والفيلسوف الشهير بول ريكور. انتقى محاضرات لأساتذة كبار في الجامعة وفي الكوليج دو فرانس. تعززت ثقته بلغته الفرنسية، لكنه تخلى عن المنحة بعد سنتين وعاد إلى بيروت.
الشاب الذي خذلته أحلامه العروبية، بدءاً بانهيار الوحدة المصرية السورية، وما تلاها من إحباطات تكللت بهزيمة 1967، اهتدى إلى ماركسية تضع هويته اللبنانية داخل إطار فكري أوسع. ماركسية ستجد ترجمتها في المشاركة مع وضاح شرارة وفواز طرابلسي وآخرين في تأسيس «لبنان الاشتراكي» (1965)، التنظيم الذي سيندمج مع «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» بقيادة محسن إبراهيم لتكوين «منظمة العمل الشيوعي» (1970). تغيير زاوية النظر، جعل لبنان أمراً مركزياً في ممارسته الفكرية الممزوجة بحسّ نقدي غدا لاحقاً مدخلاً نقدياً إلى تاريخ لبنان نفسه، وانتهى إلى وصف لبنانيته بأنّها «لبنانية التواضع».
سيغادر بيضون المنظمة بعد مواظبته على كتابة افتتاحيات محكمة، ومغفلة التوقيع في مجلة «الحرية» لسان حال المنظمة. يقرّ بيضون بأهمية التجربة على المستويين الفكري والثقافي، لكنه يقر بفشلها على صعيد الأهداف. «التحريض على التفكير والتثقُّف كان صفة أساسية في المنظمة. كانت قراءاتنا مصحوبة بمرونة نقدية هائلة. إلى جانب السياسة والتاريخ، تسنّى لنا اهتمام مماثل بالأدب والسينما والشعر...». بطريقة ما، كانت المنظمة تجمعاً لمثقفين خرجوا منها ليحتلوا الصفوف الأولى في الحياة الثقافية اللبنانية. في سنوات الحرب الأهلية وما تلاها، انخرط بيضون ورفاقه في الكتابة والصحافة والترجمة والشعر، كما لو أنّ المنظمة كانت قد أجّلت طموحاتهم تلك. بقيت السياسة حاضرة في أعمالهم طبعاً، لكنها تذرّرت وصارت جزءاً من نبراتهم المرموقة في حقول كتابية مختلفة.
هكذا، نشر بيضون أوّل إصداراته: «ديوان الأخلاط والأمزجة» (1984) وهو في الحادية والأربعين. قبل ذلك بسنتين، حصل على الدكتوراه بدرجة الشرف على أطروحته «الهوية الطائفية والزمن الاجتماعي في أعمال مؤرخي لبنان المعاصرين». هل تأخرت في الجهر بكونك شاعراً، ثم كاتباً ومؤرخاً وسوسيولوجياً؟ يبتسم ويجيب بطريقته المحببة في خلط الجدية بالسخرية: «لدي عدم ندم على عدم البروز مبكراً». بالنسبة إليه، الكتابة هي استغراق في الكتابة نفسها: «أنا المستهدف الأول من كتابتي، ولذلك لا أهتم بالسنوات التي لم يعرف أحد بما كنت أكتبه طالما أني كتبته لنفسي. هذا ليس ازدراءً بالقارئ. يهمني أن أُقرأ طبعاً، لكنّ هذا الهاجس مؤجّل إلى ما بعد الانتهاء من الكتابة».
ما يقوله بيضون عن مزاجه في الكتابة، يتحقّق بطلاقة فاتنة في مؤلفاته كلها. نزَّه صاحب «الجمهورية المتقطعة» جملته المتفردة في أجناس مختلفة. التشعّب صفة لائقة بتجربته الموزعة على الشعر والسيناريو السينمائي واللغة والمعاجم والتاريخ والسياسة والعلوم الاجتماعية. لكنه حضر في هذه الحقول كلّها، بما يسميه «الشخصية الأسلوبية» التي تتحول إلى نوع من «الجِلد اللغوي» بحسب تعبير رولان بارت. لعل هذا يفسِّر سعيه إلى إنجاز «قطعة أدبية» مهما كانت هوية النص الذي يكتبه.
لقد فعل ذلك حتى حين طُلب إليه كتابة مشروع قانون لإعادة تنظيم «الجامعة اللبنانية». «قصتي هي الأدب» يقول ذلك كمن عثر على تأويلٍ يختزل تجربته: «ما أقصده بالأدب هو الأدب بمعناه الأصلي الذي راج في القرنين الثالث والرابع للهجرة، مع كتّاب مثل الجاحظ والتوحيدي وغيرهما. لم يختلف هؤلاء عن مؤرخين مثل الطبري أو كتابات الفقهاء». هل هو كاتب ضلّ طريقه إلى السياسة والتاريخ؟ «أعتقد أنّ ما حدث هو العكس. منذ بداياتي، كنت أحس أن اللغة العربية جميلة، لكنها تحتاج إلى أفكار. كنت ألمس الجمال والفكر في اللغة الفرنسية، وأفتقده في العربية. فكرة أنّي ضللت الطريق إلى العلوم الاجتماعية ناتجة من شغف باستثمار إمكانيات اللغة في حقول منتجة لمعرفة حقيقية، وهو ما رأيته لاحقاً لدى ابن خلدون وابن رشد».
«كتّابٌ في كاتب». «كثرةٌ في واحد»، هكذا وُصِف في تكريمه أخيراً في الجامعة الأنطونية. من أين يأتي التعدد؟ يجيب ضاحكاً: «أظن أن أصولي الريفية تزدري الاختصاص. في القرية تستطيع أن تكون مزارعاً وكندرجياً. البيئة الريفية تسهّل على الريفي أن «يحرتق» في أي شيء».
الإقامة في اللغة والتاريخ بالمعنى الفلسفي والاجتماعي، لم تمنع أحمد بيضون من قراءة الوقائع الملموسة التي تصنع مقومات هذه الإقامة. نسأل المؤرخ المزهوّ لأنه شهد الثورات العربية، عن أحوال لبنان. فيقول «إن البلد لا يزال يعيش المأزق الذي ظهَّرته الحرب الأهلية. نحن أمام أمرين: إما انهيار لبنان، أو انفجاره بحرب جديدة إذا توافرت توظيفات مناسبة لأطراف تموِّل ذلك. هناك حل ثالث يُؤمل أن يعقب الثورات العربية الحالية، وهو قيام نظام إقليمي جديد يسمح للبنان بأن يكون دولة طبيعية».
اليوم، وبعد تقاعده من التدريس في الجامعة، يعكف بيضون على إصدار نسخة بالعربية من كتابه «تردّي لبنان والإصلاح المنبوذ» الذي نُشر بالفرنسية قبل عامين، إضافةً إلى كتاب آخر حول اللغة والثقافة على شاكلة كتابيه المرجعيين: «كَلَمُنْ» و«معاني المباني». وماذا عن مسقط الرأس؟ يقول إن أمكنة طفولته اختفت: «بنيتُ بيتاً لقضاء الصيف، وأذهب إلى هناك كسائح تقريباً».



5 تواريخ

1943
الولادة في «بنت جبيل» جنوب لبنان

1982
حصل على الدكتوراه من السوربون على أطروحته «الهوية الطائفية والزمن الاجتماعي في أعمال مؤرخي لبنان المعاصرين»، وعمل أستاذاً في كليّة العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية حتى 2007

1984
صدور ديوانه الوحيد «ديوان الأخلاط والأمزجة»، وسيناريو فيلم «بيروت اللقاء» الذي أخرجه برهان علوية قبلها بعامين

1993
وسام السعفات الأكاديمية برتبة فارس في فرنسا

2011
صدور كتابه «رياض الصلح في زمانه» (دار النهار). كُرِّم في «الجامعة الأنطونية» و«الحركة الثقافية/ أنطلياس» على مجمل تجربته