ثورته في رحم الغيب، رحم الشعب، وعده بها الفلّاحون والعمّال... ثورته في عِلم النيل يحييها جيلاً وراء جيل لأنّ «مصر بتطبّل على باب الجحيم/ في غياب الفكر والفهم السليم/ اليسار عاجز يلمّ شتات عياله/ والغرور دوّد في أمخاخ اليمين/ واللي كان طاير على جناحات خياله/ انكفى يقصقص في ريش حلمه القديم/ كل من عنده نظر قاتله سؤاله/ رايحه فين يا بلد وسايبه ابنك يتيم».لا شيء غير عشق الشعب، يدفع طفل السبعين سمير عبد الباقي، إلى تحمُّل عبء توزيع نشرته الشعرية «شمروخ الأراجوز» (العدد 75؛ أيار/ مايو 2011)، على صبية وشباب يجلسون في مقهى شعبي، وسط القاهرة. «قوم رجِّع حقك/ وكرامتك/ مصر مش أمك/ مصر بتاعتك/ ارفع رأسك/ انت صاحبها/ صمتك عن حقك/ غربها/ أرض وميه/ وشمس ونور/ وبراح حر/ ومن غير سور/ دم الشهدا خلاص قربها». يقع هذا النشيد في الصفحة الثانية من نشرته الشعرية التي أعطى النادل نسخةً منها، فطواها في جيب قميصه الأبيض، ووعده بقراءتها. قهقه شمروخ الأراجوز: «أبدعت أساطير تبيح لك/ تتباهى فوق سرج خيلك/ ما بقى لك إلا شغلك/ وحتى لو مش باقي لك/ الصعب طول عمره سهلك/ حب الوطن زاد قلبك».
لم ينفَد إبداع هذا الشاعر والروائي والمسرحي والثوري الملتزم. تجربته مشتعلة ومتجددة دوماً. غير أنّ الإنجاز الأساسي لسمير عبد الباقي يبقى انحيازه الدائم لابن الخيال الأول، أي الشعر. يفعل ذلك بعناد وعبقرية الآباء والأشقاء السابقين، مثل عبد الله النديم، ويعقوب صنوع، ورمزي نظيم، وبيرم التونسي، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين. أنجز في الشعر تراكماً ونصوصاً مركّبة، وخصوصاً في مجال الشعر السياسي الذي تجاوز فيه المعاناة الذاتية، لمصلحة الجماهير. في رصيده، ستَّة دواوين، و75 عدداً من نشرته الشعرية المستقلة «شمروخ الأراجوز» ضمّت مئات القصائد والرباعيات السياسية.
في السابعة عشرة من عمره، أيام العدوان الثلاثي (1956)، نشر في مجلة حائط أشعارَه التي ألهبت حماسة الشعب المناضل ضدّ الاستعمار. شارك أيضاً في تقديم عدد من المسرحيات للمُهجّرين من بور سعيد. تجربته المتقطعة والطويلة في السجن طبعت وجدانه ووعيه السياسيين. في عام 1977، وعقب «انتفاضة الخبز» الشهيرة في عهد السادات، اعتُقل مع مجموعة من الفنانين والمثقفين. وقبل ذلك بعقود، أمضى خمس سنوات (1959 ـــــ 1964) وراء القضبان في عهد عبد الناصر، لأنّهم أصدروا جورنال «صوت الفلاحين»، وكان تابعاً لـ «الحزب الشيوعي».
في المرّة الأولى، تنقّل بين سجن المنصورة والقلعة والواحات: «قرأتُ مكتبة كاملة عن المسرح والأدب والفلسفة والتاريخ والفكر الإسلامي. كان معنا معتقل يُدعى الحاج وهبة، وكانت لديه مكتبة كبيرة، نقلها كلّها إلى سجن المنصورة. وهناك، أصدرنا مجلة حائط تحوي قصائد، ومقالات أدبية وسياسية. وفي سجن الواحات، كتبت شعراً، وقدمنا مسرحيات منها «حلّاق بغداد»، و«البرجوازي الصغير»، و«بيت الدمية»، إضافةً إلى مسرحيات أخرى لا أذكرها». يضحك طويلاً ثمّ يقول: «كانت أيام».
جنون الشاعر أوسع من ثوب السياسة. قبل أن يدخل سمير عبد الباقي معتقلات عبد الناصر، رفض الانضمام إلى أي تنظيم شيوعي. «كلّهم أصدقائي، وكانوا ينتقدون بعضهم بعضاً بحدّة. لم أُرِد خسارة أحد». انضمَّ إلى تنظيم «8 يناير» الذي وحّد التنظيمات الشيوعية المصرية كافة (1958)، ثم استقال من حزب التجمع اليساري (1991) احتجاجاً على «انتهازيّة اليسار اليميني». في السنوات الأخيرة، وحتى بعد الثورة التي «تلقّف ثمارها العسكر والانتهازيون»، لم يفارق الحزن والخيبة هذا الرجل السبعيني. «أي يسار هذا الذي في مصر؟ أين بديهيات الصراع الطبقي، والتنظيم اللينيني، وعلاقة اليسار المناضل بالجماهير، وتحرير الوعي؟ لقد هجروا النظرية».
الطالب اليساري الذي تخرج من كلية الزراعة (1966)، قاد تظاهرات طلابية ضد أحكام الطيران الشهيرة (1968). قاوم الاستعمار بالشعر والكتابة، وكتب قصصاً للأطفال، ونصوصاً مسرحية في مجلات «سمير» المصرية، و«أسامة» السورية، و«سامر» البيروتية. هذه المقاومة طاولت المسرح، فقد كتب العديد من المسرحيات، وأسّس «الفرقة المركزية لمسرح العرائس»، إضافةً إلى «جماعة الدراما» التي قدمت العرض الشهير «في حب مصر». كتب المفكر المصري الراحل لويس عوض عن هذا العرض، بعدما شاهده في «المركز الثقافي السوفياتي» في القاهرة عام 1974: «حافظوا على هذا العرض، فقد نحتاج إليه إذا تجدد القتال».
في العام نفسه، دعاه «الحزب الشيوعي اللبناني»، إلى تقديم المسرحيّة نفسها، في احتفالية عيد تأسيسه الخمسين. «قطعنا لبنان بالطول والعرض، وطبعوا أغنيات المسرحيّة على شريط كاسيت». في عام 1981، سافر إلى سوريا للعمل في مجلة «أسامة»، وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، شارك في أنشطة ثقافية عربية لمواجهته. «كنت أكتب زاوية يومية بعنوان «تحت القصف» في جريدة «النداء». كانت أياماً صعبة في لبنان». صدرت بعض قصائد هذه الزاوية في ديوانين هما «قصائد تحت القصف»، و«أناشيد الحزن اللبنانية».
بدأبِ من يكتب عمله الأول، يكرِّس سمير عبد الباقي كل الوقت للإشراف على التفاصيل النهائية لروايته الجديدة: «زمن الزنازين» التي تصدر خلال أسابيع قليلة. «ستكون عن معتقلي سجن المنصورة، ورفاق السجن، ورؤساء العصابات الذين قابلتهم هناك». وهي الثالثة بعد روايتيه «ولا هم يحزنون»، و«عندما تكلمت الأحجار»، كما يستعدُّ عبد الباقي لإصدار كتابه «44 سنة في ميدان التحرير»، وتحتوي على قصائد بالفصحى والعامية: «على ناصية التحرير، شفت الجفا والضنا، وجريت ألوف المشاوير، عمري ما قلتش أنا، ولا افتريت ع الغير».



5 تواريخ

1939
الولادة في قرية ميت سلسيل (الدقهلية ـــــ مصر)

1959
اعتُقل خمس سنوات في سجون النظام الناصري بتهمة الشيوعية

1973
أسس «جماعة الدراما» التي قدمت عمله الشهير «في حب مصر»

1982
ديوان «أناشيد الحزن اللبنانية»

2011
يستعدّ لإصدار روايته الثالثة «زمن الزنازين»