«ماذا تريدون اليوم؟ هل ما زلتم تأملون كشف مصير أحبائكم؟»، تتغيّر ملامح وداد حلواني. تحدّق طويلاً في الكأس أمامها. دقائق صمت ثقيلة كافية لتدرك أنّ سؤالك لم يكن في محلّه. اللعب على احتمالات الخيبة غير وارد في قاموس رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان». بـ«أوف» طويلة، تقرر أن تردّ بعد حين. «هذه المعركة فرضت علينا، ولم نخترها بأنفسنا. نعم، نحن ما زلنا نصرّ على معرفة مصيرهم لأنّ هذا حقنا. من حقي أن أعرف مصير زوجي عدنان حلواني. وإن مات، فمن حقي أن ألبس الأسود». يشوب نبرة السيدة ألمٌ خاص جداً، لكنّه عام في الوقت نفسه. ألم على قياس الوطن. في مواجهة سياسات المحو الممنهج لتاريخ الحرب اللبنانية، تحوّلت وداد، مع غيرها من أهالي المخطوفين، إلى «مصابيح للذاكرة» الجماعية. هكذا لقّبهم السينمائي جان شمعون في شريطه الوثائقي الأخير.«نحن مظلومون مخضرمون. ظلمتنا الحرب، وحين عبرنا إلى السلم ـــــ بين مزدوجين ـــــ وقع علينا ظلم أكبر». إصرار وداد ورفاقها على المحاسبة والكشف، جعل من خيمتهم في وسط بيروت أشبه بنصب تذكاري لضحايا الحرب الأهليّة. ترفض حلواني تحويل قضية المخطوفين إلى ملفات فرديّة. بالنسبة إليها إنّها قضيّة مركزيّة، بحجم هذا الوطن المترنّح تحت ثقل الماضي وكوابيسه. لهذا حملتها بحرص شديد، منذ ذلك اليوم الخريفي عام 1982. كانت قد مرّت أسابيع على اختطاف زوجها عدنان حلواني، في 24 أيلول (سبتمبر). وجدت نفسها تجول على المسؤولين وحيدةً، في محاولة عبثيّة للحصول على معلومة أو إشارة ترشدها إلى مكانه. دفعها اليأس إلى وضع إعلان في إحدى إذاعات المنطقة، دعت فيه من فقد عزيزاً بالطريقة نفسها، إلى لقاء تعارف قرب جامع عبد الناصر (المزرعة). «كنت أتخيّل أنني سألتقي بامرأة أو اثنتين، لكنني حين وصلت إلى المكان، صعقتُ بمشهد فاق مداركي: مئات النساء والأطفال ينتظرونني هناك».
فهمَت يومها أنّ كثراً يتشاركون معها في المصيبة، فرفعت صوتها بينهم، ودعتهم إلى مسيرة مرتجلة، نحو السرايا الحكومية (الصنائع في ذلك الحين) للقاء رئيس الحكومة شفيق الوزان. «لم يكن عندنا شيء نخسره»، تقول وهي تخبرنا كيف كادت النساء يحطّمن سيارات القوى الأمنية التي حاولت منعهنّ من التقدّم صوب السرايا. بعد أخذ وردّ، سمح الجيش لمجموعة صغيرة بالصعود إلى آلية عسكريّة، وأخذوهنّ لمقابلة رئيس الوزراء. «قال لنا: العين بصيرة واليد قصيرة». ردّ رسمي عاجز، خلّف في نفوس المتلهّفات خيبةً كبيرة. أدركن أنّهنّ وحدهنّ على تلك الجبهة، فقررن تشكيل نواة لتحرّك مشترك، صار اسمه لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين. «منذ ذلك اليوم وحتى الآن، ونحن نركض»، تقول. كأنّ تلك التظاهرة العفوية ما زالت تتمدّد زمنياً، حتى يومنا هذا. لم يتغيّر شيء. ما زالت «اليد قصيرة» في بلد يجترّ حروبه كلّ يوم ألف مرّة.
«خلال الحرب، كنا نركض تحت القذائف، ورصاص القناصّة، نجتاز معابر الميليشيات، وكان الجميع يريد التخلّص منا، لأننا كنا تجمّعاً عابراً للطوائف، ولأنّ الجميع أحسوا أنّهم متهمون». وماذا عمّا بعد الحرب؟ منذ التسعينيات، كان التعاطي الرسمي مع ملف المخطوفين أشبه بمسرحيّة هزلية، توّجها تقرير صدر عام 2000 عن لجنة شُكِّلت «لتقصّي الحقائق». أعلنت «الدولة» في تقريرها أنّها لم تجد مفقودين أحياء، بل مقابر جماعية منها في مدافن مار متر ، والتحويطة، ومدافن الشهداء في حرج بيروت و... في البحر.
تتذكر وداد كيف راحت يومها تلملم الأمهات من غرف الطوارئ في المستشفيات، تمسح دموع تلك، وتربّت كتف الأخرى. «اعتقدت الجهات الرسمية أنّها بذلك التقرير، تكون قد اشترت صمتنا، لكنّها نسيت أنّه حين يموت انسان لا تتبخر جثّته... لو صدر ذلك التقرير المتخاذل في أي دولة أخرى غير لبنان، لكانت التظاهرات اجتاحت الشوارع». تستعيد هنا تجارب مماثلة في أميركا اللاتينية والبوسنة وأوروبا الخارجة من حربين عالميتين. المهمّ أن ذلك التقرير كان حلقةً من سلسلة طويلة من المماطلات، بين لجان رسمية وقوانين ووعود فارغة. وفي خطوة مفصليّة ضمن تحرّكها، رفعت اللجنة قبل عامين دعويين قضائيتين أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، بهدف التأكد من وجود مقابر جماعيّة في أملاك مطرانية الروم الأرثوذكس في بيروت، وجمعيّة المقاصد الإسلاميّة، تمهيداً لتحديد مكانها، وتأمين حراستها.
«حفيدي نائل لا يعرف جدّه عدنان إلا في الصور. هناك جيلان، ثالث ورابع، سيأتي يوم يسألوننا عما حلّ بمن هم في الصورة»، تقول أستاذة التعليم الثانوي سابقاً التي حوّلتها ساحة النضال إلى محامية، وناشطة حقوقيّة، وناطقة رسميّة باسم شريحة عريضة من العائلات اللبنانية، وحتى... مخرجة. فقد أنجزت العام الماضي فيلماً قصيراً بعنوان «هي وقاطعة...» كان بمثابة تحيّة لرفيقة دربها الراحلة أوديت سالم. هي أيضاً من مؤسسات «الشبكة الدوليّة لأمهات وزوجات وأخوات وبنات المفقودين».
حياة ابنة العائلة الطرابلسية أشبه بمتتالية من المعارك. كانت الرقم 14 في عائلة من 15 ابناً وابنةً. في حي باب الرمل، وجدت نفسها تصارع لتثبت حقّها في مواصلة تعليمها الثانوي، في عائلة محافظة، كانت ترى دار المعلمين المكان الأنسب للبنت الأولى في صفّها. من خلف أبواب ثانوية البنات، خاضت أولى تجاربها في التمرّد أواخر الستينيات، بين إضرابات واعتصامات مطلبيّة، كانت تقودها نهلا الشهال. لاحقاً خاضت معركةً جديدة مع الأهل لتقنعهم بالسماح بالتحاقها في الجامعة. تسجّلت في كليّة الآداب في بيروت، ثمّ في كلية التربية. جمعها العمل الطلابي في «منظمة العمل الشيوعي»، بحبيبها «المهضوم» عدنان حلواني. كان عليها خوض معركة إضافيّة مع الأهل، لتقنعهم بزواجها من ذلك «الغريب البيروتي»، عام 1974، قبل عام واحد من الحرب.
«كان بيتنا في رأس النبع، على خطوط التماس. كنا نرى كلّ أعلام الفصائل والميليشيات، حالما نطلّ على شرفة منزلنا». فوق محرمة وجدتها على طاولة المقهى، ترسم خريطة لخطّ التماس والأعلام بقلم حبر أحمر. خلال الاجتياح، كان «عدنان بين من خططوا لصمود بيروت. وكان ينشط في تأمين المازوت للمستشفيات، والمؤن للأهالي». الحديث عنه يجعل وجهها يضيء، وعيناها تلمعان. أما حادثة اختطافه، فـ«مشهديّة عجيبة». دخل من قالوا إنّهم «الدولة» إلى بيتهم، واقتادوا «الزلمي» بحجة إجراء «تحقيق بسيط». الدقائق الخمس الموعودة طالت 29 عاماً. «أحسست أنني بلا كتف، وبلا سقف. لا أعرف من أين أتيت بالقوة لأواصل. كانت تنتابني أحياناً الرغبة بضمّ ولديّ زياد وغسان، وإعادتهما إلى رحمي لو أمكن». ماذا يريد أهالي المخطوفين اليوم إذاً؟ يريدون إعلان 13 نيسان (أبريل) يوماً وطنياً للذاكرة. يريدون استحداث هيئة وطنية لكشف مصير ضحايا الإخفاء القسري. يريدون إنشاء قاعدة معلومات للحمض النووي، تمهيداً لنبش المقابر الجماعية، وإقامة وداع لائق لجثامين من فيها. «نحن أيضاً نريد الحقيقة ـــــ تقول وداد حلواني ـــــ نريدها منذ ثلاثين عاماً».



5 تواريخ





1951
الولادة في طرابلس (شمال لبنان)

1971
التحقت بكلية الآداب في بيروت، وانتقلت بعد سنتين إلى كلية التربية

1982
اختطف زوجها عدنان حلواني من بيتهما في رأس النبع ظهر 24 أيلول (سبتمبر) وما زال مصيره مجهولاً حتى الآن

1995
خاضت مواجهة مع الدولة اللبنانية، بعد إصدار قانون «الأصول الواجب اتباعها لإثبات وفاة المفقودين» الذي يسمح لأهل المفقود إشهار وفاته في المحاكم الروحيّة

2011
تواصل مع بقية أهالي المفقودين والمخطوفين متابعة ملف القضيّتين المرفوعتين أمام قاضي الأمور المستعجلة
للتأكد من وجود مقابر جماعيّة، تمهيداً لتحديد مكانها، وتأمين حراستها