وليد غلميـة
رحل وليد غلميّة مقهوراً على الموسيقى العربيّة. لم يَهِنْ غضبه. مذ باشر وهو يندّد. أخذت رئاسة الكونسرفتوار الوطني بعضاً من طاقته، ولا أعرف عدد الألحان والسمفونيّات التي وضعها، لكن لا هذه ولا تلك استهلكته وإنما كانت جزءاً بسيطاً من مخزونه (كان لي نصيبٌ من اهتمامه: سمفونيا وضعها من وحي كتابي «ماضي الأيّام الآتية»، سَلَبتني إيّاها فوضى الحرب). رجلٌ آخر كسّرَ أجنحته واقعٌ لا يرحم المثاليّين.
من أكثر الأوضاع إيلاماً اضطرار الثائر إلى التعامل مع الذين يثور عليهم. يرفضهم نظريّاً ويَقْبلهم عمليّاً. مهما زرع من دعواه فيهم وبين صفوفهم فلن يشفى من جرح هذا الانقسام. بين التبشير بموسيقى عالميّة المستوى والانخراط في «استديو الفن». بين طموح الكلاسيكيّة، ومهرجان بيبلوس أو ليالي بعلبك الفولكلوريّة. بين شموخ الكونسرفتوار وقيادة الأوركسترا للروائع الخالدة، وتَحمُّل الواقع، الواقع الفنّي والواقع دون تحديد، ولاحاجة لوصفهما.
ترافقنا أنا وهو منذ ما قبل بعلبكه، وكان يتعبني طموحه الدائم التحفُّز، ويضايقني افتراقنا الذوقي: فهو غير معجب بما يعجبني من ألحان لبنانيّة وأنا غير معجب بفنّانين يُقدّرهم جدّاً. رحمك الله أيّها الصديق، ما زلتُ على حبّي لما كنت أحبّ، وأصبحتُ أكثر تقديراً لمن كنتَ أنت تحمل لواءهم. ولا ريب أنك باقٍ على عدم إعجابك بفريقي، فعنادك من جوهر طفولتك، وتَغيُّري من كوني الآن أرثيك.
أيّها الصديق، قلت، ولا أحد يستحقّ هذه الصفة أكثر منك. ما فرّق بيننا كان أيضاً يَجْمعنا. هذا نحن. هذا أنت. هذا أحد أركان وجودنا.
فداحةُ غياب مَن تستطيع أن تكون معه وضدّه مدّاً وجَزْراً، وأن يظلّ معك. حريّتنا الماضية وراءنا. تلك الرحاب... لا شيء يرينا هول انحسارها مثل صفعة الموت.


«وثيقة ولادة»

«أريد أن أولد يا أمي...» كان يمكن أن يكون عنواناً آخر لكتاب عقل العويط الجديد «وثيقة ولادة».
أكثرهم رومانتيكيّة بين أبناء جيله، عبارته تَخْلج في النفس الحنين، ومناخه فائح باللوعة. اللون هنا هو بين الأزرق الغامق والأبيض الغامق.
أراجيح على هوى الأسى وعَزْف كمنجات الغصّة، تارةً فوق رثاء النفس وطوراً تحت الانسحار بها. لواعجُ ما يُرى وما لا يُرى.
يمتاز عقل العويط بفائض العاطفة، ولا سيما عاطفة الحبّ، وكتابته نهرٌ سيّال. الكلمة آهة أو احتضان، والصراخ صلاة أو حيلةُ مرعوب من الضياع.
كان هذا البوح سيكسب بالإيجاز والعَصْر، يسعفه فالتكرار والدوران على الذات لا يسعفان إلّا حيث الحكّ الذاتي إمعانٌ في إضرام الحرائق. وما سوى ذلك يرهق الصورة والمعنى. وليت الشاعر يقلّل من صيغة قول الشيء وعكسه وما بينهما، فالحسم أفضل، ولو على خطأ. الشعر تورُّطٌ، وأسمى علاقاته بالبحر هي الغرق.
يواصل عقل العويط الكتابة بعواطفه وأحلامه وسط مساحاتٍ أدبيّة تكثر فيها الكتب «الشعريّة» المتصحّرة. شعره موسم دفء، لو عادل فيه التكثيفُ الإلهامَ لفاق بلّورُهُ سائر أحجاره. الشعر الذي ينتمي إلى الحبّ لا يحتاج إلى الخطاب الغزير وإنّما إلى النظرات البليغة. والنظرة البليغة كتابيّاً هي كالنظرة البليغة عَينيّاً، تقول بالصمت أكثر ممّا يقال بأيّ لغة. والصمت الكتابي ليس عدم الكتابة، ولا البياض، ولا القصيدة القصيرة، بل هو الجملة التي لا تُتْخِم.
بين العجز الملّارمياني المتحذلق والخصب الثرثار (معظم شعرنا العربي، قديمه وجديده، ثرثار) هناك صفحات الوهج الشعري، وهي تحتاج إلى دليلٍ لنعثر عليها ولا تحتاج إلى برهان بعد أن يقع عليها البصر.
لدى عقل العويط عدّة نفسيّة ومزاجيّة لهذا التوهُّج، وهو ممّن يمتلكون تلك الموهبة «المَوْجيّة» الرقراقة، إحساساً ورؤية، وكلّما كثّف وجَزَّ وَوَقَف، ألبسَ روحه صوتها وأوجد بين صوته وصداه تجانسهما الهنيء.


الرداء المدوَّر

أزياء المرأة نوعان: واحدٌ يحمل الخيال على الاتجاه إيجاباً وآخر سلباً. الأزياء الحديثة منذ الاسترجال والأَمْرَكة معادية للخيال الإيجابي، على رأسها بنطلون الجينز. على عكسه تنّورة الجينز. فهي توفّق بين خشونةٍ صلبة وإيحاء جنسيّ يشبه قليلاً إيحاء التنّورة الكلوش القديمة الطراز أو هندام التلميذات المطعَّج حدّ الركبة. لكن تنّورة الجينز أكثر وحشيّة.
الشكل هو الباب وكثير ممّا وراءه. العري هو النواة المتبقّية بعد الثمرة.
لو لم يكن الرداء المدوَّر المفتوح شكلاً سحريّاً لما تبنّاه رجال الدين. في رداء رجل الدين، إلى جانب الرهبة، أمانٌ أموميّ. في فستان المرأة، إلى جاذبيّة غطاء البئر، رفيف أجنحةٍ من كوكبٍ آخر.



عابرات

لا بدّ لك من سجن كي يشعّ دفئك على غيرك.
■ ■ ■
قابسُ الكهرباء في لاقطٍ ليس له: أيُّهما يتعذّب أكثر؟
■ ■ ■
الأضعف منكَ يحتاج إلى قوّتك والأقوى يحتقر ضعفك ومُساويكَ يبحث عن سواك.
■ ■ ■
لا قديمَ ولا جديد بل دائمُ الحدوث.
■ ■ ■
يستطيع كلّ كائنٍ أن يبدو خياليّاً مرّة واحدة على الأقلّ قبل أن يموت، والحسناء تستطيع أن تبدو خياليّة كلّما لمحتها عينا رجلٍ لا يعرفها،
والمرأةُ أشدّ الكائنات انغراساً بالواقع،
والواقعُ أكثر المرئيّات خياليّة...
■ ■ ■
الصدقُ ليس الصراحة، بل شعورٌ بالمسؤوليّة عن الحقّ قد يستوجب الرفق إلى درجةِ التمويه.
■ ■ ■
تُعْرَفُ القسوةُ من عينيها: لا تدمعان إلّا لمَن يعصاها.
■ ■ ■
لا تعتب على إخلاف الواعد، وَعْدُه أكرمُ من وفائه.
■ ■ ■
خطأُ الأمس ضد الغير لا يمحوه خطأ اليوم ضدّ النفس.
■ ■ ■
قاهرُ الشمس هو الفيء البسيط لا الليل العظيم.