هو ربما أبرز لبناني من أصول أرمنيّة متمكّن من اللغة العربية، باستثناء الأخطاء التي يتعمَّد ارتكابها حين يؤدي شخصية الطفل! إن شغفاً قديماًَ يربط الممثل بيار جماجيان (1951) باللغة والخطّ العربيين. شغف انتقل إليه عن طريق مجموعة من الكهنة الضليعين باللغة العربية، تتلمذ على أيديهم في مدرسة مار عبدا في جل الديب (شمالي بيروت)، مسقط رأسه وجنّته المفقودة. ذلك المكان الذي يرتبط في ذاكرته بـ«رائحة زهر الليمون العابقة، وصوت الأمواج المتكسرة على شاطئ المنطقة الساحلية». سحر البحر، لم يتضاءل مع مرور السنوات. حتى اليوم، يعيش بيار نزيل الشاليهات، ناجحاً في الحفاظ على شبابه... لأنه «لم يتزوّج» كما يقول ضاحكاً في المقهى البحري الذي اختاره للقائنا.
في «ثانوية الجودة» التي أقفلت اليوم، ستتكوّن علاقته بالتمثيل من خلال أعمال موليير منذ الصف الخامس الابتدائي. ومن ملعب كرة السلة الشاسع لـ«الرابطة الاجتماعية في جل الديب» التي تلقفت موهوبي المسرح المدرسي في المنطقة، سينطلق لاحقاً نحو مسارح الحمرا.
كانت الرابطة تستعيد سنوياً إحدى مسرحيات الرحابنة في ملعبها الكبير، وتقدّمها بحضور عاصي ومنصور ومساعدتهما. كانا يقدمان الديكور والملابس والأكسسوارات من مخازنهما الخاصة. بين دور الإمبراطور في «يعيش يعيش» والشحاذ في «المحطة» والمستشار في «هالة والملك»، تلمّس بيار طريقه إلى الاحتراف، حتى كانت مشاركته بدور النادل «عزّو» في «سهرية» زياد الرحباني. كان الأخير قد جاء مع أهله، ككلّ سنة، لمشاهدة مسرحيات الرابطة، حين قرّر أن يقدم لنادي المسرح في الرابطة عملاً من إخراجه يعرض لأول مرة. نحن في عام 1973 على أبواب منعطف حاسم في التاريخ اللبناني الحديث. «سهرية هي المسرحية الوحيدة من بين أعمال زياد القديمة التي صوّرت»، يتحسّر بيار الذي دخل عالم الرحابنة، منذ ذلك الحين، وأصبح جزءاً من ذاكرته.
قفزتان في الفراغ سيقوم بهما الشاب في ذلك العام: الأولى عرض «سهرية» في مسرح «أورلي» في الحمرا في بيروت بناءً على طلب صاحب المسرح خالد عيتاني. يومها، كانت الرهبة تنتابه عند التفكير في النزول إلى الحمرا «شارع الثقافة، والتجار، والبياعين» الصاخب مسرحياً، فنياً وثقافياً. أما ثانيتهما، فحين قال له زياد: «البابا عايزك». حين ذهب لمقابلته، ربّت عاصي كتفه قائلاً: «برافو بيارو برافو، إنت هالسنة معنا بالبيكاديللي». هكذا، بمنتهى البساطة، قالها ومشى. أما بيارو، فقد عجز عن النوم في تلك الليلة. كانت علاقته بزياد قد توطدت إلى حدود الزمالة والصداقة، فهو من سنّه تقريباً. لكن أن يعمل مع عاصي وأمام السيدة الكبيرة على مسرح «البيكاديللي» في الحمرا، فقد كان ذلك تحدياً صعباً واختباراً صعباً، لم يلبث أن نجح فيه بفضل احتضان أعضاء الفرقة له.« ارتبكت جداً في المشاهد التي كان عليّ تأديتها مع السيدة فيروز في مشاركتي الأولى تلك». كانت مسرحية «لولو»» التي أدّى فيها، مطلع عام 1974، دور رعد المجنون. «بمشقة كبيرة، تمكنت من أن أقول لها جملتي: ركعي
ولي!».
بعد هذا الاختبار، نجح بيارو في القفزتين وتآلف مع الحمرا، وصار من رواد الـ«هورس شو»، وهنا أدار لاحقاً حانات مثل «شوارب بيّك» (your father›s moustache) و«لورد كيتشنر»، بينما تابع مسيرته الفنية مع الرحابنة. مع زياد، أدى أدواراً لا تنسى في مسرحيات مثل «نزل السرور» (أواخر عام 1974) التي يعتبرها «نقلة نوعية في المسرح». وما زال الجمهور يذكر جيّداً شخصيّة الأرمني «الستيريو» (إشارة الى ازدواجيّة العلاقة بالطوائف ومنطقتي بيروت المقسّمة آنذاك) التي أدّاها في «فيلم أميركي طويل» (1980)، ثم مشاركته اللافتة في «شي فاشل» (1983). أما مع الأخوين رحباني، فقد شارك في «ميس الريم» (1975)، ولاحقاً في «بترا» (1977). حين يتذكر بيارو تلك الأيام، تلمع عيناه. «لا مسرح بعد الرحابنة»، مسدداً اصبع الاتهام إلى الآفات المستشرية اليوم في المهنة، مسرحاً وتلفزيوناً، إذ لم تعد الموهبة هي المعيار، والإبداع هو الغاية...
طوال السنوات التي عمل فيها في المسرح، كان بيارو كائناً ليلياً. الليل الذي عاشه كان مأنوساً بالأصحاب. «بعد العرض، كنا نتوجه أحياناً في منتصف الليل إلى حمام «النزهة» التركي في بيروت، أو حتى إلى البقاع، نحو قرية الفاكهة، مع فهد العبد الله، راقص الدبكة الشهير. كنّا نبيت ليلتنا هناك في ضيافة أهله الذين كانوا يقيمون ذبيحة في اليوم التالي على شرفنا». أما مع زياد، فقد كان جو العمل ممتعاً، «أجمل كأس كانت تلك التي تسبق العرض مع الفول في الكواليس».
إلى جانب المسرح، كان لـ«تلفزيون لبنان» نصيب من بيار جماجيان أيضاً. هناك، قام بدور «الشاب المستقيم في مواجهة أحمد الزين الذي يؤدي دور الشاب المتفلت في بعض حلقات مسلسل «يسعد مساكن» مع أبو ملحم (الفنان أديب حداد)... إلى أن أدى عام 1981 الدور الأبرز له في المسلسل الكوميدي اللبناني الشهير «المعلّمة والأستاذ»: «ذات ليلة، بعد السهرة، ذهبنا لتناول الفول، أنا وإبراهيم مرعشلي وآخرون. قلّدت شخصية الطفل، وهو دور كنت أؤديه دوماً للتلهي بين الأصدقاء. ضحكنا كثيراً في تلك الأمسية. وبعدها مباشرة، طلب مني إبراهيم المشاركة في المسلسل بالشخصية ذاتها بعدما رفضت اقتراحه بأن أؤدي دور كوكو الذي عاد وأداه الزميل يوسف فخري». رغم أن الإنتاج كان متواضعاً، ومردوده لم يكن عالياً من الناحية المادية، إلا أنها «كانت أياماً جميلة وكان مناخاً مسلياً وممتعاً».
منذ ذلك العصر الذهبي، لم يظهر هذا الممثّل المميّز على الخشبة إلا لماماً... نشير مثلاً إلى «بيارو حظه زيرو» (1987)، ثم «بيارو أو لا أحد» في التسعينيات. أما الدراما التلفزيونية، فرغم كل «الفساد الإنتاجي المستشري فيها» كما يقول، إلا أنّه حافظ على حضوره على الشاشة الفضيّة. مسؤول العلاقات العامّة في نقابة الممثلين الذي يصف أوضاعها بأنّها «مثل أوضاع البلد»، شارك في مسلسلات مثل «حكاية أمل»، و«السبيل»، و«امرأة من ضياع»، و«لو ما انقطعت الكهربا» حيث أدّى شخصية مركّبة يعدّها من أجمل أدواره. ومثّل أخيراً في مسلسلين يعرضان قريباً هما «الغالبون» (إخراج باسل الخطيب) على شاشة «المنار» الذي يتناول موضوعه الأثير، المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، و«تحليق النسور» (إخراج نبيل لبّس وكتابة كلود أبو حيدر) على «المؤسسة اللبنانية للإرسال». «لم يعد للمسرح الطعم ذاته بعد الرحابنة» يقول بيارو الذي رفض حتى الآن عروضاً عدة للمشاركة في مسرح الشانسونييه. يعني ذلك أنّه عاش حياته الفنية بالمقلوب؟... يهزّ الظريف الأبدي برأسه، بينما ترتسم على شفتيه ابتسامة هانئة.



5 تواريخ


1951
الولادة في جلّ الديب
شمالي بيروت

1973
شخصيّة «عزّو»
في «سهريّة» زياد الرحباني
كانت عهده الأوّل بالمسرح المحترف

1974
دور رعد المجنون
في مسرحيّة الأخوين
رحباني «لولو»

1981
دور بيارو في مسلسل
«المعلّمة والأستاذ»

2011
شارك في مسلسل
«الغالبون» الذي تعرضه قناة «المنار»
في رمضان المقبل