في كتابه «مقالة في التفكيك» (أو في التفكّك، أو في الاضمحلال ـــــ 1949) يعقد الكاتب الفيلسوف الروماني الفرنسي إميل ميشال سيوران مقارنة بين الفيلسوف والمومس، فيدعو الأوّل إلى التشبّه بـ«بيرونيّة» الرصيف، هذه التي يمارسها الكائن الأقلّ عقائديّة والمتمثّل في «المرأة العموميّة».والبيرونيّة نسبة إلى الفيلسوف الإغريقي Pyrrhon d,Elis (356 ـــــ 275 قبل الميلاد)، واضع قواعد الفلسفة التشكيكيّة. وقيل إنّه صحب الإسكندر في غزوته للشرق واكتشف الحكمة الهنديّة على أيدي جماعة الفقراء والنُسّاك الهنود، وظلَّ فكره متأثّراً بها إلى نهاية حياته، مذهولاً خصوصاً بقدرة أولئك المعلّمين على احتمال الألم بعدم اكتراثٍ وبلا توجُّع. ومن تلامذته أستاذٌ علَّمَ أستاذ أبيكور، والأبيكوريّة تطوير للبيرونيّة.

حلم بيرّون بإمكان توفير السعادة للإنسان عن طريق التدرّج به في سبل التحصُّن ضدّ الانفعال أو الانحياز، بلوغاً إلى جمود اللامبالاة التامّة. وفي رأي سيوران أن المومس، بوصفها منفصلة عن كلّ شيء ومتميّزة بالملاءة النفسيّة المنفتحة لكلّ شيء، غير عابئة بمزاجها الشخصي بل متكيّفة مع أهواء الزبون، فلا هي فرحة ولا هي حزينة، بل سيّالة بالتنهّدات المصطنعة، وبالأجواء المناسبة للطلب، متعاملة مع رغبات شريكها بذهنيّة متنوّرة وزائفة ـــــ في رأيه أن هذه المرأة تُقدّم للفكر نموذجاً سلوكيّاً يتفوّق على نماذج سلوك الحكماء. يعتبر سيوران ـــــ المتشائم اللاذع المرّ الهَجَّاء الفظّ، والشاعري المرهف المتقشّف النازف دوماً من عصبه العاري ـــــ يعتبر أن أعظم درس يعطيه البغاء، «هذه الأكاديميا المتجوّلة للوعي، والواقعة، كالفلسفة، على هامش المجتمع»، هو الوقوف بلا يقين وبلا قناعات أو مواقف جاهزة حيال البشر والذات. ويختم فكرته بالقول إن الفلاسفة يبيعون ضغينتهم على قارعة الطريق مثلما تبيع المومسات أجسادهنّ. وقبله قال بيرّون الإغريقي ما يشبه ذلك حين أنكر وجود الحقيقة «فنحن لا نعرف أننا لا نعرف».
«كلُّ متوجَّهٍ إليه زبون»، فكرةٌ قديمة. ولعلّها ما بارحت العصور إلّا لتغيم قليلاً وراء ضبابيّات المثاليّات والرومانسيّات. وشدّ ما أعلنت عن نفسها بفجور الواقع اليومي في الأزمنة الحديثة ولا سيما منذ القرن العشرين مع جموح مدنيّات الرواج والمقايضة والتسليع. وفعل البغاء لم يعد ـــــ ولم يكن أصلاً ـــــ وقفاً على المومس بل شمل الميادين الجماليّة والمعنويّة حيث الانحراف بالقيم وبالرسالات إلى درك الاستعمال النفعي، كأنْ يبيع الكاتب ضميره والقاضي ذمّته والصحافي شرفه، فضلاً عن الفنّان والشرطي ورجل الدين والطبيب والنائب والوزير إلى آخرهم.
ولكنْ قليلاً ما رُفع التشبيه إلى حدّ التشبُّه. هنا، عند سيوران، تغدو المومس قدوة، وقدوة لأرفعهم منزلةً في دنيا الفكر. وذلك بفضل نزاهتها، وهي ميزة أقلّ ما يقال في إغداقها على البغيّ أنه جديد. النزاهة، التجرّد، المسافة، حسنات بقَدْر ما يمكن أن تكون سيّئات. لكليهما. فمَن ذا يَتَأثَّرْ فيلسوفاً حياديّاً بلا شعور؟ أو يُعجب بمومس (أو «فاضلة») بلا حرارة؟ مستحسَنٌ أن تتكيّف وتكون طيّعة كالماء والهواء، وقابلةً «لكلّ شيء»، وجاهزةً (مجرّد جاهزة، بدون كلمة وراء جاهزة)، ومقبولٌ ومرغوب أن تُلقي على شريكها «نظرةً متنوّرة وزائفة»، لا بأس بـ«الزائفة» ما دامت المرأة تعطي الرجل ما يوافق واهِمَتَهُ، وربّما من أمنياته أيضاً أن تكون الشريكة «أزعر» منه وعلى مسافةٍ واحدة بين برودها وسخونتها، حتّى لو أطاعتهُ طاعةَ العبيد. هناك عبيدٌ يتظاهرون بالعبوديّة، وهناك سادة يغضّون النظر عن المراوغة والنفاق لأنّهم لا يقلّون عن عبيدهم تضلّعاً من «الفنّ»، وثمّة بين المتهتّكين مَن لا يطمئن لغير الضاحكين عليه.
لا بأس بـ«الزائفة»، لكن التحفّظ هو عن إرسال التنهّدات المصطنعة وعن اللامبالاة. إذا كان لا بدّ من اختيار، فلتكن اللامبالاة دون التنهّدات المصطنعة. اللامبالاة تتناغم مع الباقي، لا بل تُكلّل الأجزاء، فهي الجبين الأعلى، السؤال الأخرس المبهم، وبه يُستزاد لأنّه مغلَق مستفِزّ.
اللامبالاة تحترم الشريك بكونها لا تُمثّل، لا تستخفّ بالذكاء عينك عينك. أمّا التنهّدات المصطنعة فلا تَستحقّ أجراً بل صفعة.
أمورٌ عديدة تبدو ناقصة في مقارنة سيوران بين النموذجين، منها إمكان أن تستمتع المرأة بـ«زبونها». بائعة الهوى ليست دائماً، كما تريد الصورة، كادحة مضطرّة. قد تكون فقيرة وشبقة، وغير فقيرة وشهوانيّة، ومضطرّة ومستمتعة، وغير فقيرة ولا مضطرّة وإنما محضُ مستهترة تَقْرُن المتعة بالفائدة.
أمورٌ عديدة تبدو ناقصة، ويخرج منها الرأي لمصلحة المومس. لمصلحة المرأة عموماً، أيّاً يكن تصنيفها الاجتماعي أو الأخلاقي. لسبب واحد على الأقل وهو مسألة الزبون أو الشريك. فلماذا يكون للفيلسوف زبون أو شريك والمفترض أن مبرّر وجوده هو البحث عن الحقيقة لا عن سواها، وفوق كلّ اعتبار؟ أمّا الجنس فهو لا يدّعي التعامل بأقلّ من الغريزة ولا بأكثر من الحلم.

■ ■ ■

يكره سيوران الفلسفة لأنّها تشرح الوجود ولا تعبّر عن معاناته. وهو بهذا شاعر، أو منحاز إلى الشعر. يفضّل سفر أيوب وشكسبير وباخ وشيللي وبودلير وريلكه على نظريّات الفلاسفة. لا يرقى على الشعر إلّا الشعر، حتّى لو تدهور الشعر المكتوب كما يحصل وكما حصل مراراً عبر العصور. نيتشه في أواخره أقرب إلى الوجدان من كانط وهيغل، لأنه ازداد التحاماً بشاعريّته. كذلك شوبنهاور ومثله وأكثر منه سيوران ذاته. أفلاطون يُمتّع حين يأخذ قارئه بالخيال لا بالمنطق. نَسْحب هذا على أيّ شعرٍ كان في أيّ لغةٍ كانت لأيّ زمنٍ كان. حِكَمُ المتنبّي أجملُ وأعمق من حِكَم المعرّي لأنّ المتنبّي شاعر أوّلاً وأخيراً والمعرّي نصف شاعر نصف فيلسوف. المسرحيّون الإغريق الثلاثة، أسخيلوس وأوريبيد وسوفوكل، فضلاً عن هوميروس، أبلغ من التراث الفلسفي اليوناني بأسره. شكسبير، هو لا الفلاسفة الانكليز، عصارة العقل الانكليزي. لا يُذكر مونتينه وديكارت وفولتير وروسّو ومونتيسكيو أمام فيّون وراسين وكورناي وهوغو وبودلير ورمبو. الخارق في الماركي دو ساد ليس إباحيّته المهسترة ولا إلحاده المسعور بل هذيانه الشعري. فاليري قتل شاعريّته بادّعاءاته الفكريّة و«الرياضيّة» و«نحته» العقيم. أغسطينوس جذّاب لأنّه ينبض كشاعر مراهق. محمد حسين فضل الله ارتقى، في فتاواه ورؤاه، بفضل شاعريّته. اللاهوت الفلسفي بلا معنى، اللاهوت الشعري، عند يوحنا الصليب وتريزيا الإفيليّة والمتصوّفة العرب، رسالة مباشرة إلى القلب والوجدان والمنطق وما وراءها. لا يبقى حيّاً شيء من معالجات بلزاك السوسيولوجيّة الضخمة، لأنّه «كاد» فقط أن يكون شاعراً، ويبقى الشيء الكثير من ميتافيزيكيّات دوستيوفسكي لأنّه شاعر. فرْخ الشاعر في بروست مزدوج الرداءة: إحساسه عديم النار ولغته بلا عصب، لذلك هو أضعف من أن يُعيّشه غسل الأدمغة مهما فعل. نذكر طه حسين لمواقفه أمّا كتابته فلا علاقة لها بالسهل الممتنع بل هي تكرار مميت، تكرار الأستاذ الفهيم المفضال والذي تقف ذائقته عند حدود استضافة الشعراء وإكرامهم (وليس جميع مَن كان يجب) ولا تتعدّاها إلى امتلاك الشاعريّة ولا بمقدار. الشاعريّة ألزمُ من الشعر. الشاعريّة استعداد بيولوجي لا ثقافة. تُعْرَف، إذا أردنا، بأولى بارقاتها: العلاقة باللغة، بالكلام، بالألوان، بالأنغام، بالروائح، بالأشكال. يكتب ميكل أنج إلى أحد أنسبائه رسائل تخالها، لتفاهتها، صنْع بقّال، وعندما ينكبّ على ورشة رسمه أو نَحْته يصبح إلهاً. ليس فقط لأن لغته هي الرسم والنحت، بل لأن شاعريّته هي «في» هذه اللغة، بواسطة هذه اللغة. أطبّاء يمارسون طبابتهم بمثل هذه الشاعريّة، وهم من البدء إلى الأبد أعظم الأطبّاء. النظرة التي تَكْسر في عيون الأولاد هي هذه الشاعريّة. كلُّ «فوقٍ» يأخذ، هو هذه الشاعريّة. إذا كان من آلهةٍ للبشر، فشفاعة البشر عند الآلهة ليست أعمالهم بل هذه الشاعريّة. لقد ابتكر الفلاسفة الألمان المذهب الرومنتيكي: حاولْ أن تقرأهم. بضعةُ شعراءٍ ألمان ماتت أكثريّتهم الساحقة في مطلع الصبا خلّدوا الرومنتيكيّة وانطوى شعرهم على الجوهر الوهّاج الخالد الذي لم تستطع الفلسفة أن تصل إلى مبتدأ جذْعه.

■ ■ ■

كنت، عندما أدوخ لدى مطالعة فلسفيّة، أُرْجِع ذلك إلى الضجر. وسرعان ما استنتجتُ أن رأسي، مثلما هو عصيّ على الرياضيّات، غبيّ في الفلسفة.
صحيح ذلك، لكنّه ناقص. فوق عدم القدرة على الاستيعاب، اكتشفت مع مرور الزمن، أي بعد فوات الأوان (وبعد فوات الأوان هو توقيتي شبه الدائم للاكتشاف) أن الفلاسفة يقترحون حلولاً وأنّي شخصٌ لا ينفعه حلٌّ عقلاني. مثلاً: يقترح الأبيكوريّون، من أجل تحقيق السعادة، عدم الخوف من الموت، والاكتفاء من الملذّات بأبسطها وأكثرها ضرورة، وما كان منها «طبيعيّاً». كان همّهم توفير المتعة دون ضريبتها الألم. مثل الفيلسوف الذي جاء ذكره في أوّل المقال. أي، كما تقول اليوم، الطعام «البيو» والقهوة «الديكا» والتبغ النعناعي.
الحلول تُقدّم لمَن يريد حلّاً لا لمَن يبتغي الهروب، والفلسفة منهجُ بحثٍ عن الحقيقة العقلانيّة، لا روحٌ تُشعل نفسها تأجيلاً للغوص في العتم.
في أحد معانيه، الشعر هو هذا. والحياة تُعاش «هذا» الشعر، تحديداً، لا شعر الملاحم ومصارعة الصياغة. اللحظة فراشة وراء فراشة.
الشعر يختصر الحياة بصواعقها.