دراجة مهملة منذ سنوات بسبب آلام الظهر. سرير حديدي، وخزانة ملابس حديدية تحوي معطفاً واحداً تميزه ثلاثة خروقات، وقميصان لكل فصول السنة، بل فصول السنوات العشر الأخيرة. طاولة صغيرة، تكاد تختفي تحت كدسات الكتب في مجالات شتّى: فلسفة وفنّ ودين وتاريخ. جوربان قديمان، وزوج حذاء متهدم، وقبقاب بلاستيكي. هذه هي ممتلكات الراهب الستيني وليام سيدهم الذي يقطن غرفة صغيرة في الطبقة الثالثة من مسكن «مدرسة العائلة المقدسة» (جيزويت القاهرة) في حي الفجالة وسط العاصمة المصرية. في ليالي الصيف الحارّة، يصعد «أبونا وليام» السطوح، ويرتجل سريراً من خمس خشبات. وعندما توقظه الشمس، ينزل الشارع بالقرب من جيزويت القاهرة لتناول فطوره المفضّل، فول بالزيت وطعميّة مع عم شحتة وعم مصطفى.
في ميدان التحرير، رغم حرارة الجو، يحيط عدد من أطفال «جمعية النهضة العلمية والثقافية» بالأب وليام الذي يعمل منسّق الجمعية في جيزويت القاهرة: «كلهم أولادي. ندربهم. وقد دربنا غيرهم على مدى 13 عاماً على فنون السينما، والمسرح، والرسم، والعزف، والتصوير الفوتوغرافي».
فوق حشائش «الكعكة الحجرية» في الميدان خلال «جمعة الوحدة الوطنية» ( 13 أيار/ مايو الجاري)، جلس الراهب اليسوعي بعدما أعياه الهتاف. كان يهتف ربع ساعة، ويرتاح. أراح ظهره فوق أرض الميدان، شاعراً بالفرح لأنه شارك في الثورة، وحرّض عليها، وهو متفائل بمسارها: «لقد تجاوزنا الأصعب» يقول. يستعيد شريط الذكريات، ينظر إلى سماء التحرير، فيستعيد تواريخ باريس التي تظاهر في شوارعها، مناصراً للقضية الفلسطينية (1975)، وانتفاضة 18 و19 يناير الشعبية (1977 ــــ انتفاضة المصريين إثر قرار السلطة الساداتية رفع أسعاء السلع)، ومحتجاً على اتفاقية «كامب ديفيد».
الشاب الجنوبي، المنحدر من عائلة فقيرة في قرية جراجوس (محافظة قنا)، رُسم قسيساً في كنيستها عام 1984. وكان طرفاً في قصة حب طوباوية مع إحدى بنات العائلة قبل التحاقه بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة (1968). لكنّه ترك القصة واختار طريق الرهبنة. بعد أشهر قليلة، سيمر في تجربة أكثر صعوبة. سيفقد إيمانه مع بداية سبعينيات القرن الماضي: «كنت محموماً بتساؤلات، كل دراساتي جاءت رداً عليها. درست ابن رشد،وهيغل وماركس. لكنّ كانط أراحني كثيراً. لا أحد منا يستطيع أن يثبت الحقيقة وحده. إنها مسؤولية العالم».
ظنّه الآباء اليسوعيون في تلك الفترة مجنوناً: «قبلوني كما أنا. شيوعي وملحد. وأنا لم أنف ذلك. أقنعت نفسي بأن الله محبة. وقبلها، خضعت لرياضات روحية شاقة. خبرة صعبة. صعبة. الآباء اليسوعيون ساندوني، وأنا أقنعت نفسي بأن الله محبة».
الروافد التي كوّنت الوعي السياسي للأب وليام سيدهم، متسقة تماماً في ما بينها: متمرد، وعاشق للتحرر من سطوة النصوص الدينية، ثائر على خضوع السلطة الدينية للسلطة الزمنية. شارك الحركة الطلابية في جامعة القاهرة، تظاهراتها المؤثرة (1968 ــــ 1973) رغم أنّه كان يعمل مشرفاً في «مدرسة العائلة المقدسة» في القاهرة. بعدذاك سافر إلى فرنسا حيث حصل على الماجستير في لاهوت الفلسفة، وتحديداً في المنهج النقدي لابن رشد الذي يراه أكثر الفلاسفة العرب تمرداً. ثم دخل في الوقت عينه في معركة كبيرة مع اليسوعيين الفرنسيين، حول مسألة إسرائيل التي لا يعترف هو بها، ويراها كياناً دموياً قام على تفسيرات ملفّقة للعهد القديم. ورعته الإمبريالية الأميركية التي «تتكسب نفطها ورزقها من المتاجرة بالمسيحية والحرية».
قبل أن يحصل الراهب الشاب على ماجستير اللاهوت من باريس، التقى بثوّار مسيحيين من أميركا اللاتينية، من بيرو وتشيلي والأرجنتين والسلفادور والمكسيك. «لم أكن مقتنعاً بأن الدين مجرد طقوس تُنزل مشيئة الرب. لماذا لا يحرّض رجل الدين الناس على التغيير بالفعل؟». قرر سيدهم أن يدرس «لاهوت التحرير»: «ألّفنا مجموعة متخصصة هناك، واعتنقت الفكرة». نشر وترجم سيدهم في السنوات التالية كتباً عن لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، وأفريقيا وآسيا. لكنّه فشل في نشر وعي «لاهوت التحرير» في مصر: «الناس كانوا يخافون من السياسة. المسيحيون يخافون أكثر. الكنيسة الرسمية قهرت شعبها وأخضعته للاستبداد السياسي». إنّه متيقّن من أنّ «لاهوت التحرير» كان سيمنع وقوع أي فتن طائفية، لأنه «يدافع عن وحدة كل الفقراء والمضطهدين على اختلاف عقائدهم، ضد وكلاء الله والنظام والاستقرار».
لم يسلم الراهب الفنان من ملاحقة أمن النظام السابق. «كنت ضيفاً شبه دائم عليهم. قبل عشر سنوات، أسسنا مسرحاً للأطفال هو مسرح للمقهورين. استدعيت للنيابة أكثر من مرة بتهمة تشويه صورة مصر لأننا كنّا نصور فيلماً عن أطفال الشوارع. توقفت تحرشاتهم في أيام الثورة الأولى». كانت «جيزويت القاهرة» ملجأً لفارين من وحشية أمن النظام السابق.
يظهر الأب سيدهم شكاً حين يتكلم عن قدرة الثوار على استكمال مطالب الثورة، «ما لم يتطهر الإعلام التلفزيوني من موروثات العهد السابق». أما الأحزاب المصرية الحالية، فيرى أنّها جزء من النظام القديم، ويجب أن تتاح الفرصة للأحزاب الناشئة «ذات الخط الجماهيري والاجتماعي». لكنّه متفائل عموماً، فهذا طبعه «البلد يحتاج إلى فترة انتقالية كافية قبل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية». يشير بأصابعه إلى مكبرات الصوت الضخمة في ميدان التحرير (قرب مدخل الجامعة الأميركية): «مجرّد عروض، إنهم يدغدغون مشاعر البسطاء بشعارات رنانة. الضحايا يصفقون لهم. هؤلاء هم أنفسهم من يصفقون بحرارة بعد عظة البابا شنودة الثالث. لست قلقاً. هذا الفرز العفن ضروري، وطبيعي أن يخرج من مقبرة الاستبداد. المحبة والحرية ستطهرنا».



5 تواريخ

1947
الولادة في قرية جراجوس، محافظة قنا المصريّة

1977
نال درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة «السوربون» في باريس حيث اكتشف «لاهوت التحرير»

1984
رُسم قسيساً في كنيسة جراجوس

1988
أسس مع آباء يسوعيين ومثقفين مستنيرين «جمعية النهضة العلمية والثقافية» في «جيزويت القاهرة»

2011
انخرط في «ثورة 25 يناير» وما زال يواصل نضاله الإنساني والاجتماعي والوطني