في أول أيام الثورة، كتب مقالاً في جريدة «الشروق» لدعمها. يومها، لم يكن حسني مبارك قد سقط بعد. رأى السينمائي المصري أنّ إطلاق العنان لصوته ضروري. بعد تنحي الرئيس، انخرط صاحب فيلم «الكيت كات» (عن رواية إبراهيم أصلان) مع مثقفين آخرين في تأسيس «الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي»، وهو حزب يساري له توجهات علمانية واضحة. يؤكد رغم ذلك، أنه لن يتحول إلى ناشط سياسي، فعمله مع هذا الحزب «موقت ومرهون بقدرته على النهوض بمشروعه».بدأ داود عبد السيد مسيرته بأفلام تسجيلية وضعته في مكانة متميزة، منها «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» الذي أهداه إلى طه حسين، و«العمل في الحقل» عن لوحة للتشكيلي المتمرد حسن سليمان. ثمّ تحوّل إلى السينما الروائية مع شريط «الصعاليك»، وهو من بطولة نور الشريف ومحمود عبد العزيز ويسرا (1985). قوبلت باكورته بترحيب نقدي كبير، وضعه إلى جوار أبرز مخرجي جيله، أمثال محمد خان، وعاطف الطيب، وخيري بشارة.
مثل كثير من المثقفين المصريين، يبدو صاحب «رسائل البحر» قلقاً من حضور القوى الدينية في المجتمع المصري بعد الثورة. يبدي خشية أكبر من السلفيين لأنهم «قوى غامضة»، ظهرت على السطح فجأةً على عكس الإخوان المسلمين، الذين هم قوى منظمة لديها قدرة على التأثير في الشارع. يرصد السينمائي المصري مشهد ما بعد الثورة: «القوى الدينية المحافظة بدت كظهير مدني للمجلس العسكري، كما ظهر أن فئات كثيرة في الشعب على استعداد لتقبل عمليات التزييف. الجهل وتفشي الأمية يجعلان الغالبية لا علاقة لها بالسياسة». مشكلة أخرى يرصدها داود المشغول بالسياسة أكثر من أي وقت مضى، هي البطء في إجراءات المحاسبة والتحول الى الديموقراطية، «لكنّ هذا البطء يبدو طبيعياً في الظرف القائم، ولطبيعة الثورة ذاتها، فهي أولى ثورات العالم التي لا يحكم بعدها من قاموا بها».
بنبرة التفاؤل المشروط، يتحدث صاحب «البحث عن سيد مرزوق» عما صنعه «25 يناير» من تحولات في حياة المصريين اليومية. فقد أظهرت الثورة مجدداً «طاقات الفرح والبهجة لدى المصريين». في مرحلة ما، بدا «ميدان التحرير» ذاته أقرب إلى «محمية طبيعية، ومختبر لميلاد الطاقات الإبداعية». تحوّل الميدان في رأيه إلى بؤرة سحرية، منتجة للأمل، جاءت في وقت كان فيه الفشل هو العنوان العريض لكلّ ما يجري في مصر، تحت نظام مبارك، الذي احترف قتل الرغبة في الحياة.
ما الذي تغيّر منذ أن رأى بذرة الفساد في فيلمه الأول «الصعاليك»، ذلك العمل الذي عدّه النقّاد نهايةً لموجة أفلام فضح الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات؟ «تغيرت معرفتي بحكم العمر، لكني لا أحب مقارنة نماذج فيلمي برجال أعمال حكومة أحمد نظيف الموجودين في سجن طرة الآن. فهؤلاء ليسوا عصاميّين كأبطالي، بل أبناء طبقات أرستقراطية أصيلة، كانت جرائمهم نتاجاً لفساد نظام سياسي كامل».
قبل أن يكمل داود جملته الأخيرة، يلمحني وأنا أطل من شرفة منزله الواقع قرب قصر الرئاسة في حي مصر الجديدة. يسرق مني السؤال ويقول: «لا أحب التورط في رثاء الحي الذي نشأ في بداية القرن العشرين، فهو لا يزال متماسكاً، وكل الامتدادات التي عاشها لم تؤد إلى انهياره، كما حدث في الـ«داون تاون». عندما أذكِّره بمرثيات كتبها آخرون عن تحولات مرّ بها المكان، يتابع: «أندهش كلّما قرأت هذه المرثيات، لكنّي أدرك دلالات تفشي خطاب الحنين في مصر ربما نتيجة حالة انسداد الأفق التي عشناها في ظلّ غياب أيّ تصور عن المستقبل، ما دفعنا إلى إعادة بناء الماضي على وهم أنّه كان جميلاً».
نسأله كيف بنى مساره السينمائي، وبات مخرجاً يترقّب الجمهور أفلامه، فيجيب: «حاولت دوماً الوصول إلى أكبر شريحة من الناس، من دون أن أفقد نفسي أو حريتي. وعملت بشرط شديد القسوة، وهو قدرتي على تقديم نفسي ورؤيتي في مواجهة السينما التجارية». نجح داود عبد السيد كذلك في بلورة نموذج خاص لسينما فنيّة، منتشرة جماهيرياً مثل «الكيت كات» أو «مواطن ومخبر وحرامي»... وهي أفلام ناجحة بالمعيارين الفني والتجاري، لكنَّ صاحبها لا يزال يتذوق مرارة فشل فيلمه «البحث عن سيد مرزوق». «بعد فشل هذا العمل، تعاملت مع نفسي بقسوة، ورأيت أنني أخطأت لأنّ الجمهور شُغل بجمع خيوط الحكاية. حتى «مواطن ومخبر وحرامي» ألمس فيه الآن نبرة تعليمية بريختية، ولا سيما المشهد الأخير».
في أفلامه أدار عبد السيد نجوماً أمثال أحمد زكي، ومحمود عبد العزيز، ونور الشريف... لكنّه ظل دوماً صاحب قدرة على إعادة تقديمهم في صورة مغايرة للسائد. «ليست لديّ مشكلة مع النجوم، كنت أرفض فقط استسلامهم للتنميط والتصنيف السهل. كنت أطمح دائماً إلى تحريرهم من الصور النمطية التي التصقت بهم. حدث هذا مع محمود عبد العزيز في «الكيت كات»، إذ غادر إلى الأبد شخصية الشاب الوسيم». لا يشاهد داود أفلامه بعد عرضها: «الفيلم بعد عرضه ينفصل عني، وأستطيع مساءلته ومواجهته بداخلي من دون عاطفة».
ينظر السينمائي المصري إلى نفسه كفنان لديه التزام تجاه الإنسانية كلها. وهذا الالتزام ينعكس على مهنته، فـ «لا شيء مجانياً»، لكنّه لا يعدّ نفسه منظّراً سينمائياً، بل يفضِّل تشبيه نفسه بطفل يجد متعته في اللعب. «متعتي كانت في تجسيد الأفكار التي كتبتها على ورق، ومن حسن حظي أنّ هذه اللعبة تخلق لي فرصةً للعيش». ويندهش داود من النقد الموجه إلى أفلامه لكونها مليئة بالمشاهد الجريئة. «أيعقل أنني ما زالت عاجزاً عن تناول موضوع الجنس بحرية؟ فأنا مراقب رقابة متعددة الطبقات، مؤسسية واجتماعية وذاتية، تحول دون نقاش جدي بشأن الموضوع، وهذا نتيجة عيشنا في مجتمع مكبوت».
داود عبد السيد من القراء الشغوفين بالرواية المصرية. يتابع الإنتاج الروائي بشغف. ومن هذا الموقع يلاحظ أنّه صار «من الصعب العثور على رواية لا يعاني كاتبها الاكتئاب... يبدو أنّ من المستحيل العثور على كاتب محب للحياة». لعلّ حبّ الحياة في مكان آخر، في الشارع الذي يحمل آثار الفرجة الشعبيّة. فرحة لا يريدها داود عبد السيّد أن تنطفئ، أو تذهب سدى، أو تنساها كتب التاريخ.



5 تواريخ

1946
الولادة في حي مصر الجديدة في القاهرة

1967
تخرّج من معهد السينما في دفعة ضمت علي بدرخان وخيري بشارة والراحل حسام علي

1985
باكورته الروائية «الصعاليك»

1992
فيلم «الكيت كات» الذي حاز جوائز عالميّة وعربيّة عدّة، بينها أفضل سيناريو من «معهد العالم العربي»/ باريس

2011
بعد «ثورة 25 يناير»، شارك في تأسيس «الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي»، بانتظار الوقوف مجدداً وراء الكاميرا