لمناسبة صدور كتابَي «لا عذر للدم» و«الجائز عند باب الممتنع» لهدى النعماني، أريد أن أدلي باعتراف: منذ عقود وأنا أرجئ الكلام على مؤلّفاتها، وقد أربتْ على العشرة، تهرّباً من الخوض في ما لا طاقة لي عليه. تَهيُّبٌ يداني الظلم. وظلْم الأصدقاء غربتان: غربة الظالم بانكفائه وغربة المظلوم بحقّه. والمظلوم لا يُناقَش، ودعواه هي العُلْيا. وقد وجدتُني أخيراً، في دائرة أصدقاء الكاتبة، الأكثرهم تمادياً في التقصير، خاصةً أنّي أوّلهم معرفةً بها، فرأيتُ أن أرمي بنفسي في هذا البحر مهما تكن درجة سباحتي. أخلاقيّاً، الغَرَق أفضل من النجاة.
■ ■ ■

غالباً ما لا أفهم المتصوّفين. وكثيراً ما يستفزّني رفع الكلفة بينهم وبين اللّه والأنبياء. يستفزّني حسداً، وكأنّي أريد هذا الامتياز لي وحدي، في وجهه السلبي خصوصاً. ولا يفارقني الظنّ بأنّ بعض الصوفيّين ينطوي على درجةٍ من الخلط بين التعبُّد للّه وعبادة الذات، وأنّ أقربهم إلى اللّه يجب أن يكون أكثرهم استظلالاً بالصمت.
وإذا فهمت متصوّفاً فحيث هو أديب وشاعر لا شاطحٌ منخطفٌ بالرؤى. وحتّى الأدباء الشعراء بينهم يُحيّرون، فلا تفهم، مثلاً، أين الخيّام سكّير بالخمر وأين هو نشوان باللّه. كذلك ابن الفارض. وتضيّعني كلماتُ سرّهم ومفاتيحهم الدينيّة الباطنيّة. ولدى بعضهم حُمّى ملتبسة، وديكتاتوريّة مقنَّعة، ورقصٌ مرهِق على الحافات.
يكتب الصوفي لنَجيّ الروح لا لقارئ الألفاظ. يشعر أنّ مَن يوجّه إليه حديثه يزدري التأنّق، ويحاسِب على مقدار الوجد، ولا ينفذ إليه غير قبس الأعماق. لا ينتمي الصوفي إلى الصالون الأدبي بل إلى الهيكل، إلى داخل فضائه، وهذا الداخل لغته مستقلّة عن الأساليب الأدبيّة. الأدب سلطة جماليّة، طموحه أن تنجذب نحوه وتؤخذ به. التصوّف حضورٌ في الغياب، إرادته الذوبان في المُطْلَق.

■ ■ ■

صوفيّة هدى النعماني تُنذر وتُبَلْسم. يتآخى لديها الغموضُ والشفافية. تُوقع في حيرة، إنّما حيرةٌ خَفِرة متسامحة تشبه الضياع بين الفجر والشَفَق، وقد سمّاه العرب الصديع، لأنه انصداع ظلمة من نور أو نور من ظلمة. ترمي ومضها وتمشي بين الحراب. لغتها تهدر كشلّال ومع هذا تتجنّب البَلْوَرَة الصارخة. لها صراخٌ هامس. عذوبةُ السباحةِ دون هَلَع الغرق، وإنْ هلعت فهَلَع الحَمَام وإنْ غرقتْ فغَرَق السالك في أحضان التجلّي.
تنخطف انخطافها وتبثّ رسائله. تكتب دم الروح لا عقله الجاف. لا تتلذّذ بالإشراق كما يفعل صوفيّو الحواس بل «تنغلق وتنسدل كحجاب أو تقف كحاجز (...) لغةُ خَيَال يَعْبر حلمه سرمديّاً لا يفرّق بين اليقظة والنوم» كما يقول سمير الصايغ. أرستقراطيّة التصوّف. ابتكرت هدى النعماني توتّراً فريداً قوامه الخوف على الخليقة لا ازدراؤها ولا الانطواء عنها. شغف يكاد يضمحلّ فيه الفرق بين الصوت والأذن، طالع من تزاوج بين طبيعة معاصِرة كل المعاصَرَة لهموم اللحظة وتطوّرات الأحداث، ومنبجسة من التراث انبجاساً رقراقاً لا تشوبه شائبة. كلّ ناثري العقود الماضية تحمل سطورهم وأفكارهم ظلال تأثّرات غربيّة، إنْ لم يكن عبر الكتب فعبر السينما، إلّا هدى النعماني. ومع هذا تبدو أكثر حداثةً من حديثين كُثُر، لأن شفافيتها تُنقّيها من عنصريّة الأزمنة.
لغةُ انغماس في الزمن ترتدي ثوب العرافة والنذير، شيءٌ من النفّري ومن ابن عربي وشيء من أشعيا وأرميا، وتَرْجح كفّة الرأفة ويظلّ يُطلّ شعاع:
«أمن ظلمة أظلم من هذا العالم؟
وعليكَ أن لا تحصد إلّا الخير». (من كتاب «الوجد والتواجد»).

■ ■ ■

نتوقّف أمام ظاهرة فلنسمّها «الظاهرة الحلّاجيّة»، حيث يقيم الصوفيّ في الحالة الإلهيّة حدّ ضياع الحدود. ونسأل: ما حيلةُ المسكون إذا سُكِن؟ ما حيلةُ الشفّاف إذا اختُرِقتْ روحه؟ ما حيلةُ الوسيط إذا استُعيرَ صوتُه؟ ما حيلةُ الصوفيّ إذا حقّاً سمع وعاين؟ أينكر؟ أيكذب لئلّا نستهجن؟
«على مرأى وجهكِ جَذَبْتُكِ
شققتُ صدركِ
أزلتُ عن قلبك الريبَ
أجزتُهُ السعةَ والأمر
جعلتُهُ عرشاً لي!».
تقول هدى النعماني. أنا ممَّن يصدّقون مثل هذه الحالة. إنّها فعلاً لحظات وجد وتواجد. التواجد خصوصاً. يصبح الصوفيّ هو الابن الحبيب، هو الكليم، هو المُعزّى بالامتياز المستحيل وهو المصعوق بالنعمة.
ليس مهمّاً أن يدرك عقلي كلّ ما تقول الشاعرة بل أن أدخل إلى هذا المحراب دخول الطفل. هذا الطوفان من العيش مع اللّه. هذا الطوفان من وشوشةِ النور. هذا الطوفان من الطقوس والقرابين والمناولات. ولا بأس في الترداد، ولا في الإيماء الناقص أو، بالعكس، الإصرار المضني، المهمّ هو البحر: بحرُ الجنون باللّه، ينْسم ويُشرق، يعصف ويبرق ويرعد، «إلى أن أتسلّم المفاتيح السبعة».

■ ■ ■

لماذا لم تأخذ حقّها من التقييم، من النقد؟ سألها زهير غانم، رحمه الله، في مقابلة لمجلة «مقاربات»، ذاكراً، للمقارنة، أسماء بضعةٍ من شعراء قصيدة النثر الذين كادوا أن يحتكروا الاهتمام، فأجابت: «هم في الصحافة، وأنا رفضتُ أن أكون في الصحافة، وهذه غلطة». صحيح، ضجيجنا مرجعه الصحافة. ليست غلطة منها أنّها لم تكن في الصحافة، بل غلطتنا أننا كنّا. ما سُمّي حرب «الآداب» ومجلّة «شعر» كان سجالاً صحافيّاً. معركةُ «لن» ما كانت لتحصل بالمدى الذي تخطّت معه نطاقها الأدبي لتغدو حرباً سياسيّة وإلى حدٍّ ما دينيّة، لو لم تفتتحها مجلّة «الأسبوع العربي»، بمبادرة من رئيس تحريرها آنذاك (1961) الأستاذ ياسر هوّاري، الذي رأى أن أسأل نفسي وأجيبها، فاستفزَّ حديثي الذاتي ردوداً لاذعة مثيرة بدورها للردود. لقد تغيّرت المعادلة مع جيلي: بدل أن يكون الجدد على الرصيف والتقليديّون في السلطة (سلطة الصحافة، وخصوصاً بعدما اجتاح الصفحات الأدبية في الجرائد أمثالنا من النرجسيّين السفّاحين) أصبح الجدد في السلطة والقدامى مشرَّدين. أضحى جبابرة من أمثال أمين نخلة وسعيد عقل ويوسف غصوب وعمر أبو ريشة يخطبون ودّ الصحافي المتأدّب كي يأخذهم بحلمه. لولا منابرنا لما سمع بنا أحد. إرهاب. مشكلة هدى النعماني (ومثيلاتها وأمثالها من أهل الأخلاق) أنّها تَعفَّفت عن المسايرة وترفّعت عن الخنادق وانسحبت إلى صومعتها تنسج صوفها، غير حافلةٍ بالبِدع ولا راغبة في الغبار. ونحن في انهماكنا بأنفسنا لم نلتفت إلى الزاهدين لأنّنا كنّا نبحثُ عمَّن يقتلنا أو عمّن نقتله أو عمّن يلهينا بالكلام عنّا. تلك حقبةٌ عجيبة تحكّم فيها الإرهابيّون من الطرفين. طرف «الالتزام» العروبي و«النضالي» بزعامة سهيل إدريس وقبله حسين مروة وزملاؤه، وطرف الفرديّة والذاتيّة والانقلاب على القديم بأصواتٍ فرديّة في البداية ثم بزعامة مجلّة «شعر» وعنف الصفحات الأدبيّة في «النهار» و«الأوريان» و«الزمان» وما تفرّع من ملاحق ومنشورات. وانقسم الماركسيّون بين الخندقين، وتميّز بعضهم بانغلاقيّة ستالينيّة جدانوفيّة وأصوليّة تراثيّة انعزاليّة فاقت في حدّة معارضتها إيّانا في مجلّة «شعر» و«النهار» تزمُّتَ الناصريّين وشراستهم التي ذهبت إلى صعيد الغوغائيّة الدمويّة. حقبةٌ مؤلمة لم تُسجَّل، ضجّت بين المحيط والخليج، اختلطت فيها مواقف غسّان كنفاني وزملائه، الساخرة منّا ومن حداثتنا، بمواقف الأدباء التقليديّين الساخرين منه ومن رفاقه التقدميّين. شبّانٌ غاروا من شبّان وكهول وشيوخٌ لحقوا بفتيان وفتيانٌ فزعوا إلى أجدادهم. لعبت العوامل الشخصيّة كالعادة دورها وراحت كالعادة أيضاً على ذوي الخَفَر. هدى النعماني مثلاً.
لعلّ من أسبابنا التخفيفيّة أنّ كتابة النعماني تجربة روحيّة أكثر ممّا هي صناعة أدبيّة. ولكنْ كان علينا الانتباه إلى كونها لغة في اللغة. يسألها لامع الحرّ في مجلّة «الشراع»: «نصّكِ موغلٌ في الغرابة، في الصياغة الملتبسة، في الغموض الذي يضيء عتمةَ المعنى. ماذا تقولين؟»، فتجيبه: «التصوّف كشفٌ بعد كشف، غرابةٌ بعد غرابة، يذوبان معاً في صياغة المستحيل. التصوّف ليس نصّاً أدبيّاً. هو تجربةٌ قاتلة. تصحو بين الناس وأنت أبعد الناس عنهم. تمشي على مهل وفي يدك السماء». وتقول جواباً عن سؤال آخر: «اركضْ أيّها القارئ. اركضْ». وتختم: «اكتبُ للريح، لمقصورات الريح، وللملائكة التي لا تُرى».
اركضْ، اركضْ. شاعرةٌ تكتب كالهواء فوق الماء. اركضْ، اركضْ أيّها القارئ. تَزلَّجْ على ثلوجِ الرؤى، حلِّقْ. تَدَحْرَجْ كياقوتِ الحلم، كدموعِ الأطفال. شرّعْ حناياك مثلما تتشرّع أبواب النوم. انعتقْ مع ما يُسمّيه شوقي أبي شقرا «شبه دوخةٍ درويشيّة في الكلام المتمادي في موجِ البرَكة والوقوف على الحقّ الذي يظهر لها وتظهر له»...
«لا عذر للدم». ولا لتخلّفنا عن الاحتفال، ولو سطحيّاً، بهذه الحالمة السماويّة بين نيران الجحيم.



عابـــــــرات


بُغْض الآخر لي يشعرني بأنه «يراني». عيناه تقدحان في ظهري. كنتُ قبل بغضه غائباً.
■ ■ ■
حذارِ الأصوات التي ترى في نومك!
■ ■ ■
بفضل الحبّ يحنو الوحل على الوحل ويتباركان.
بفضل حدوده يُرْحَم الإنسان.
بفضل جنونه يَحْتمل وعيه.
بفضل لامبالاة الحياة تَنْهض المواسم الجديدة.
■ ■ ■
السماء هي الجبين، الغيم هو الفكر، البرق هو الشعر، المطر هو الكلام.
■ ■ ■
في البداية كان شِعر الرجل يحاول أن يشبه الصورة التي فيه عن المرأة. في ما بعد صارت المرأة تُشبه شِعر الرجل.
كان ذلك جَرَساً صغيراً يقرع أملاً: أمل أن لا يتأخّر الممكن الشعري في أن يصير واقعاً بشريّاً.