هل تكفينا معرفة أن ابنته ولدت وهو في المعتقل، كي ندرك الثمن الذي دفعه لكونه يعمل صحافيّاً في اليمن؟ تكرّرت تلك الحادثة مع عبد الكريم الخيواني مرّتين. كأنّهم يتعمّدون اعتقاله كلّما اقترب موعد قدوم مولود جديد له!«في المرّة الأولى، جاءت ابنتي آية إلى الحياة وأنا مسجون، ولم أرها إلا وقد بلغت شهرها الخامس»، يخبرنا عبد الكريم بنبرته الساخرة المعتادة ـــــ وهي بلا شكّ، بين أشياء أخرى، من أسباب سخط السلطات عليه. و«عند زيارته الثانية للمعتقل، ولد مجد الدين. يبدو أنهم كانوا أكثر تفهماً، إذ أفرجوا عني بعد شهرين على ولادته فقط»، يضيف الصحافي المشاكس، عارضاً أمامنا صفحات من يومياته في الصحافة والحياة.
كلام مباح استمرّ لثلاث ساعات متواصلة في «ساحة التغيير»، أمام «جامعة صنعاء». هناك يواصل آلاف الشباب اليمنيين اعتصامهم، رغم القمع الدموي، مصرّين على مطلبهم بتنحّي الرئيس علي عبد الله صالح عن الحكم. نجحت الساحة وشبابها في بعث أمل التغيير الذي كاد ينطفئ في قلب الخيواني، فيما كان المطر يفتتح موسمه السنوي في صنعاء، غاسلاً شوارعها وبيوتها... «حالة تناسب موسم الحصاد والتغيير في اليمن»، يقول صديقنا ضاحكاً.
عاش هذا الرجل الباحث عن المتاعب حياة صحافية غنية، تستحقّ أن تُروى. تبدأ حكاياته بقصة وقوفه خصماً شخصياً لرئيس الجمهورية، ولا تنتهي بالمؤامرات التي حاكها ضدّه «مخبرون صغار»، كل واحد منهم كان يريد الانتقام من عبد الكريم الخيواني على طريقته. يكفي أن نعرف تصدّر اسمه للائحة صحافيين شباب، كان لهم شرف افتتاح ملف رفض «توريث الحكم»، لندرك حجم الأذى «الرئاسي» الذي سيكون من نصيبه. كان له فضل كبير أيضاً في تسليط الضوء على مجريات حرب صعدة في نسختها الأولى. أتاه العقاب سريعاً، إذ أُبعد عن رئاسة تحرير أكثر من صحيفة وسُجن في مناسبات عدة. كان يقابل كل هذه المحن بصلابة، وبمزيد من الكتابات الفاضحة لخبايا التوريث، و«الاستغلال غير المشروع لثروة الشعب».
قد يكون أغرب ما تعرّض له احتلال مقرّ صحيفة «الشورى» التي كان يرأس تحريرها على أيدي عصابة مسلّحة. وعادت هذه العصابة لاحقاً إلى إصدار الصحيفة تحت الاسم نفسه، وطباعتها في مطابع حكومية، وما زالت تصدرها حتّى اليوم! لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تعرّض لتهديدات صريحة بالقتل، واختطف أكثر من مرة، إضافةً إلى وضع اسمه في قائمة الممنوعين من السفر.
لكن من أين أتى عبد الكريم بكل هذه الصلابة التي مكّنته من الخروج سالماً، وبرأس مرفوع، من كل ما مرّ به؟ يخبرنا عن حياة غنية عاشها بسبب التنقل المستمر لوالده القاضي بين مدن يمنية كثيرة، بحكم طبيعة عمله. هكذا ولد في قعطبة (اليمن الجنوبي سابقاً)، وأقام في مدينتي ذمار وإب (جنوبي صنعاء)، وفي تعز حيث تلقّى تعليمه الإعدادي والثانوي، وختاماً في صنعاء حيث تابع دراسته الجامعية.
أمّا عائلته، فتنحدر من منطقة صعدة (شمال اليمن) ذات الأغلبية الشيعية، وأحد معاقل الحوثيين. وكانت السلطة قد اتهمت الخيواني بعلاقته الوطيدة مع قادة هذه الحركة، حتى إنّه حوكم عام 2008 في قضيّة ملفّقة، إذ اتهم بـ«تأليف خلية حوثية وعصابة مسلحة»، وهو ما كلفه حكماً بالسجن ستة أعوام، أمضى منها عدّة أشهر، قبل أن يخرج بعفو رئاسي خاص، فرضه ضغط مدني ودولي غير مسبوقين. «من يصدق أنّ لدى صحافي القدرة على تأليف عصابة مسلّحة؟ إنّهم كسالى حتى في مسألة تدبير تهم من الممكن تصديقها»، يقول بالنبرة الساخرة نفسها.
عرف عبد الكريم الاعتقال للمرة الأولى قبل يوم واحد من دخوله اختبارات الثانوية العامة في مدينة تعز. يومها اختطف ليلاً، بقوة السلاح، مع ثلاثة من زملائه لاشتباه السلطة في انتمائهم إلى التنظيم الناصري. ثم أطلق سراحه مع زميل آخر في الليلة نفسها، فيما بقي الآخران في السجن خمسة أشهر. «عندما خرجا قابلت شخصين مُدمّرَين تماماً، فعرفت معنى السجن، وما الذي يفعله في المرء. لم يستطيعا إعادة ترتيب حياتهما حتى اليوم».
بعد تلك الحادثة، لم يعد تركيزه منصبّاً على الكتب المدرسية وحدها، بل تفتحت أسئلة كثيرة في وعيه. كان قد وقع مصادفةً على كتب «طبائع الاستبداد» للكواكبي، و«العروة الوثقى» لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ثمّ قرأ مسرحيّة عبد الرحمن الشرقاوي «الحسين ثائراً وشهيداً». «من نصّ هذا الكاتب المصري، وطريقته في تقديم الإمام الحسين، تعلّمت منه ما معنى أن تكون ثائراً».
كانت صالات السينما منتشرة حينذاك، وعبر الشاشة سمع باسم غيفارا. في تلك البيئة المختلفة، تقاطعت في رأسه قراءاته لـ«رأس المال» لماركس، والأفكار الناصرية، ونضال عصمت سيف الدولة، ومقولات «الأستاذ عثمان» مدرّس التاريخ الذي «حاول إعادة بناء عقولنا». أمّا مدرسهم العسقلاني الذي جاء من مصر، ولم يعد إليها بعدذاك، فله معه قصة أخرى. «حدث أن ذهبت إلى المدرسة ومعي كتاب محمّد حسنين هيكل «خريف الغضب»، وعندما شاهده في يدي انهمرت دموعه. حكى لنا لاحقاً قصة اغتيال السادات على يد خالد الإسلامبولي الذي كان في واقع الأمر ابن شقيقته».
أمّا التكوين الحقيقي لعبد الكريم الخيواني، فكان من خلال مقالات الشاعر والمفكر اليمني عبد الله البردوني (1929 ـــــ 1999) التي كان تنشر في صحيفتي «26 سبتمبر» و«الثورة» المحليتين. «أدين لهذا العبقري الرائي بتكوّن وعيي، فقد ترك فيّ أثراً كبيراً».
كثيرة هي جوائز الصحافة وأوسمة التقدير التي تسلّمها الخيواني، لكن يبقى أبرزها قرار «منظمة العفو الدولية» منحه «جائزة الشجاعة في صحافة حقوق الإنسان» لعام 2009. كان حينها في السجن، فلم يستطع الذهاب لتسلّمها في لندن. في وقت لاحق حضر رئيس «الاتحاد الدولي للصحافيين» إلى اليمن لتسليمه الجائزة، وللمشاركة في المؤتمر العام لنقابة الصحافيين اليمنيين. وألقى المذكور يومذاك خطاباً أمام رئيس الجمهورية قال فيه: «باسم المئة والخمسين نقابة المنتمية للفيدرالية الدولية للصحافيين، أوجّه من جديد نداءً للسلطات اليمنية لتعمل على احترام قرار العفو عن الخيواني، وإلغاء العقوبة الصادرة في حقه. نحن جميعاً وراء عبد الكريم، وسندعمه إلى أن يستعيد حريّته، ويعود لممارسة مهنته من دون مضايقات».
هكذا خرج رفيقنا بعفو رئاسي، لكن التهمة لم تكن قد ألغيت، وكان لا يزال معرّضاً للاعتقال مجدداً لتنفيذ محكوميّته... لكنّ تلك الكلمات أدّت إلى إلغاء العقوبة نهائياً. اليوم المواجهة بات أكثر احتداماً، وأكثر دمويّة بين الصحافي والطاغية... لذلك لا يزال عبد الكريم الخيواني في الميدان!



5 تواريخ

1965
الولادة في قعطبة (اليمن الجنوبي سابقاً)

1985
الإقامة في صنعاء والالتحاق بالجامعة

1997
دخول المجال الصحافي من خلال رئاسة تحرير جريدة «الأمة»

2008
صدور حكم بسجنه ستة أعوام بتهمة «تأليف عصابة مسلّحة»، ما حثّ «منظّمة العفو الدوليّة» على منحه «جائزة الشجاعة في الصحافة»

2011
يقيم في «ساحة التغيير» مع شباب الثورة