يفضل أن يتواصل مع الناس باللاكلام... لكن حين يفتح فائق حميصي صفحات ذكرياته وطفولته في طرابلس، يتقمص شخصيّة الراوي بحرفية عالية. جلسة الذكريات الطويلة تصلح لكتاب بسبب غناها وتنوّعها. في بداية السهرة، لم نلقَه ممثلاً ولا إيمائيّاً، بل أباً طلب منه ابنه عامر (20 عاماً)، أن يأتي لأخذه من شارع الحمرا. كان لقاؤنا على الطريق العام قرب منزله في منطقة عرمون. فور دخولك المنزل، تتجه إلى الصالون الواسع حيث يوزّع الكنبات في مكان واحد، ويُبقي بضعة أمتار مزروعة بالشموع.
يقول: «تركت هذه المساحة شبه فارغة، لأتمكن من التمرن على الإيماء».
البداية من زاروب السوسية في حي الحدادين في طرابلس حيث ولد عام 1946. «عشت بين الكندرجيّة ومنجدي الفرش». لم يجد في طفولته وسيلة للتواصل مع أولاد الحي إلاّ بالإيماء، «لم أكن أطيق اللعب معهم، لذا كنت أجمعهم لأقدم لهم حفلة صامتة». يتذكر ذلك الحي قائلاً: «لم يعد موجوداً بسبب طوفان نهر أبو علي الذي ضرب المنطقة».
لم تتحمّس العائلة لميل ابنها إلى الفن، فالوالد شوكت حميصي حلم له بأن يكون طبيباً. وقبل أسابيع من دخوله الجامعة، اكتشف أن عم والده، محمود حميصي، صديق لفيلمون وهبي، وكان يعزف مع الموسيقار محمد عبد الوهاب: «وجدت صورة قديمة تجمعه بعبد الوهاب، ولسبب أجهله انقطع عن الموسيقى، وتخلى عن عوده». لم يكن فائق الشاب الوحيد في العائلة الذي احترف الفن. سبقه ابن عمته محمد تفاحة المعروف بمحمد جمال، وصنع شهرته مع طروب.
دخل فائق حميصي الكشافة عام 1960، وكان أحد أعضاء فرقة «الجراح الفنيّة»، التي أعيد تأسيسها إثر انتقال أبو سليم وفرقته إلى التلفزيون، ثم «فرقة الفنون الشعبية» التي ضمَّته مع وليد توفيق وعبد الكريم الشعار. صنع هؤلاء الفنانون وعيه الفني والثقافي. «حين اقترح أسعد (عبد الله الحمصي) تأسيس فرقة بديلة، طلبت أن أكون في صفوفها، وصار أبو سليم مثالاً ونموذجاً لي. وعندما دعوناه إلى حفلة السبت في إحدى ليالي عام 1962 بصفته مسؤولاً سابقاً للفرقة، وقفت أمامه أمثّل، فلفته أدائي، ودعاني لتمثيل دور صغير في التلفزيون. كان الدور لشاب عائد من السفر، يقرأ خطاباً ويتلعثم فيه. أخبرت أسعد أن أبا سليم أعطاني سبع ليرات، وأنه سيكتب لي دوراً في الحلقات التالية، فسألني: «هل وافقت؟»، أجبته بنعم، عندها أخرج عصا من تحت مقعده، وهدّدني بأنني إذا عدت إلى أبو سليم فسيكسر قدميّ، لأن علي الاهتمام بدروسي فقط».
الصراع بين التمثيل والمدرسة كان يلاحقه حتى في المنزل. حاول إقناع والده مراراً بأنه فنان بالفطرة. احتواه والده، وأقنعه بأن عليه إكمال دراسته والالتحاق بالجامعة، ووعده بأن يرسله إلى القاهرة حيث يستقر محمد جمال. «تبخّر الوعد، فوجدت خطة بديلة. قررت أن أدخل دار المعلمين، لأحصل على 100 ليرة في الشهر، تمكّنني من الالتحاق بالجامعة، وتضمن استقلالي المادي».
وقف أمام لجنة مؤلفة من ثلاثة أشخاص، بينهم المربّية أندريه نحاس. «أول سؤال طرح عليّ في الامتحان الشخصي، هو لماذا تريد أن تكون أستاذاً؟ قلت الحقيقة، ليس هدفي أن أكون أستاذاً، بل ممثلاً. فرتب الرجلان أوراقهما، بينما سألتني أندريه نحّاس: هل تشاهد المسرح والسينما؟ ومن هو ممثلك المفضل؟ توقّع زملائي أن أرسب في الامتحان، لكنني قُبلت، وطلب المدير التعرف إلى والدي». لاحقاً، صارت أندريه نحاس راعية النشاطات المسرحيّة في دار المعلمين. «ساعدتني، وأهدتني كتباً، وصارت تقلني بسيارتها إلى بيروت عند افتتاح أي عمل مسرحي».
عام 1967، بدأ حياة جديدة، حين عيّن لتدريس في «مدرسة النبي عثمان» (قضاء بعلبك)، ما أخّر دخوله الجامعة حتى عام 1969. في السنة الجامعية الأولى، بدأ التمثيل مع أستاذه شكيب خوري في «علاء الدين والفانوس السحري». ثم شارك في المسلسل الشهير «عشرة عبيد زغار» مع أنطوان ولطيفة ملتقى. «قدمت الإيماء قبل سفري إلى فرنسا. سئلت هناك: ماذا تريد أن تتعلم؟ أجبت بأنّني أريد تقديم إيماء ذي سمات خاصة، وصرت أفتش عن الإيقاع في الحركة. وتوصلت إلى إيماء لا يقدّم إلّا هنا، وصار معروفاً بـ«الأسلوب اللبناني»». لهذا يتفق مع عصام محفوظ ورئيف كرم على أن «ما نقدّمه في لبنان ليس إيماءً، بل هو ما وراء الإيماء». في العاصمة الفرنسيّة، عمل في إذاعة «مونت كارلو» باسم فواز. «رفضت استخدام اسمي، لأنني ممثل ولست مذيعاً، وزاملت هيام حموي، ووداد علم الدين، وحنا مرقص». وذات ليلة من عام 1978، قرر حميصي فجأة مغادرة باريس. لم تمنعه الحرب اللبنانيّة من تغيير قراره. «صفّيت عملي الإذاعي، وعدت إلى التمثيل والإيماء. قيل لي إن زياد الرحباني يسكن منزلي. والتقيت به للمرة الأولى في مطعم في الحمرا، وعرض عليّ التمثيل، فوافقت من دون تردد على دور شاعر في مسرحيّة «بالنسبة لبكرا شو» (1978). وكان هذا العمل المسرحي بدايةً لصداقة طويلة مع عاصي الرحباني». كذلك مثّل بإدارة ناجي معلوف في مسرحية «كذلك على الأرض»، ومثّل في مسرحية «جمهورية الحيوانات» من إخراج شكيب خوري.
بعد «عشرة عبيد زغار»، ابتعد عن الشاشة الصغيرة، حتى عام 1987 في مسلسل «عريس العيلة الدايم»... في العام نفسه، دخل الحياة الزوجيّة مصادفةً. خيّر زوجة المستقبل بين الارتباط قبل بدء عروض «صيف 840» أو بعدها. فاستعجلت الأمر، وطلبت زواجاً سريعاً. يقول: «لو لم تفعل، لاضطررنا إلى الانتظار حتى انتهاء عروض العمل بعد خمس سنوات. فتزوجنا سريعاً وفي اليوم التالي، اتجهت إلى التمرين. استأجر منصور الرحباني لي بيتاً في جونية، لأكون قريباً من المسرح».
الباقي يعرفه الجمهور عن مسيرة فنّان كرّس نفسه للإيماء، ولم يستسلم لغواية اللعبة التجاريّة... وقاوم المطبّات الأهليّة على اختلافها. وها هو وريث مارسيل مارسو العربي يجلس أمامنا، كأنه في بداية طريقه الفنّية، حين طلا لأوّل مرّة وجهه الأبيض ليصبح خارج الأعمار. «ما زالت هناك رهانات كثيرة»، يقول كأنّه يردد تعويذة ضدّ الأرواح الشريرة. إنّه واحد من الشهود الأصليين على الزمن الجميل.


5 تواريخ

1946
الولادة في طرابلس

1972
شارك في مسرحيّة «فدعوس يكتشف بيروت» وكانت أوّل عمل إيمائي في لبنان، من إخراج موريس معلوف

1978
بدأ تدريس الإيماء في «معهد الفنون الجميلة» في «الجامعة اللبنانية»

1992
مسرحية «كارمبول» لروجيه عسّاف، مسرح البيكاديللي ـــــ بيروت

2011
استئناف عروض «كل هذا الإيماء»
التي سجّلت عودته إلى الخشبة
العام الماضي