في بيروت، وفي ذروة النضال الفلسطيني، نشر رسمي أبو علي قصته الأولى «قط مقصوص الشاربين اسمه ريِّس» في مجلة «الآداب». لم يكن العنوان وحده مفارقاً ومضاداً للأدبيات الفلسطينية السائدة. فالقصة التي تروي علاقة بطلها الفلسطيني بسيمون المراسلة السويسرية اليهودية العالقة في بيروت أثناء الحرب، فاجأت القراء والنقاد بنبرة طازجة، تُدير ظهرها لأكوام السرد التي قدمت الفلسطيني، إما في صورة اللاجئ المسكين أو السوبرمان الفدائي. كذلك فإن سلوك الراوي كان ذا مذاق عبثي وعدمي، يذكِّر ببطل ألبير كامو في رواية «الغريب» الشهيرة. كان مفعول القصة أشبه برمي حجر في بحيرة راكدة، وخصوصاً جملة الراوي الأولى التي لا تزال حتى اليوم تحتفظ بنضارتها وسحرها: «التقيتُ بها في أحد مكاتب الثورة، ولمّا لم يكن لدي ما أفعله، فقد فكرتُ بإقامة علاقة معها».الواقع أنّ أغلب ما كتبه رسمي أبو علي مدينٌ لقصته الأولى التي وضعته فوراً في الصفوف الأولى للأدب الفلسطيني. لم يكن التجريب والسخرية من الشعارات الثورية شيئاً عابراً في وعي أبوعلي الذي تأخر، أو أجَّل إعلان نفسه كاتباً إلى أن بلغ الأربعين. بعد سنتين على نشر القصة، أصدر مع الكاتب التونسي الصافي سعيد «المانفيستو الجنائزي رقم صفر من أجل الفن والعمل واللعب». تلى ذلك تأسيس مجلة «الرصيف» مع الشاعر الفلسطيني علي فودة (استشهد في حصار بيروت 1982) وثلاثة عراقيين هم: آدم حاتم (توفي في صيدا سنة 1993) وغيلان والكردي أبو روزا وولف. هكذا، بدا أن حالة احتجاج ثقافية وفكرية تتأسس على هامش تنظيمات ومؤسسات الكفاح الفلسطيني، «المحكومة ببيروقراطية ثورية، مشابهة لبيروقراطيات الأنظمة العربية». طمح الرصيفيون إلى إحداث ثورة داخل الثورة من خلال الثقافة، لكنّ التجربة عوملت كعصيانٍ مزاجي وغير جدّي من قبل ثقافة المؤسسة، فأغلق مقهى «أم نبيل» الذي احتضن جلسات تمرّدهم وهامشيّتهم... ثم خرج الجميع ـــــ الثورة وهامشيّوها ـــــ من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي.
ولد رسمي أبو علي سنة 1937 في قرية المالحة القريبة من القدس، ونزح مع عائلته بعد النكبة إلى بيت لحم، ومنها إلى عمان، حيث أكمل دراسته الثانوية. كتب قصة أثارت إعجاب أستاذ اللغة العربية بأسلوبها واختراقها للمحظور الديني والجنسي، وطلب منه أن يقرأها على زملائه. يتذكر من تلك السنوات صداقته مع الشاعر الأردني تيسير سبول (انتحر سنة 1973). كتب قصصاً أخرى أدهشت أصدقاءه، لكنّه عدّها مجرد تمرينات ولم ينشر شيئاً منها، مفضِّلاً عدم إعلان نفسه إلا ببصمة خاصة. في الأثناء، انتسب إلى منظمة التحرير وعمل في الإذاعة الفلسطينية. سافر إلى القاهرة، وتخرّج في «المعهد العالي للفنون المسرحية» من دون أن يعمل في المسرح أبداً. عودته إلى عمان أوائل السبعينيات تزامنت مع أحداث أيلول الأسود، فوجد نفسه في بيروت التي «شهدت كل ولاداته الأدبية والسياسية والفكرية»، بحسب تعبيره.
هكذا، بدا أن ضجره من البطالة الثورية، وتهكّمه النقدي على خشبية الشعارات النضالية، مهَّدا للحظة التي انتظرها ليعلن نفسه قاصّاً ذا نبرة خاصة، خالية من عثرات البدايات، ثم شاعراً لا يقلّ شأناً عن منجزه القصصي. في الحالتين، ذهب رسمي أبو علي إلى ما هو شخصي وهامشي ومهمل. «لم أكتب سوى ذاتي تقريباً. وأعتبر نفسي أقرب إلى عالم هنري ميلر الذي يبدو كأنه مكتوب بلا معايير مسبقة. لهذا، أنا كاتب، ولست مؤلفاً محكوماً ببناء شخصيات وحبكات. ما عشته كان غنياً بحيث لم أجد وقتاً لتأليف شيء آخر».
يقرّ أبو علي بأنه مدينٌ للفضاء البيروتي، وللشاعر شوقي أبي شقرا الذي نشر له ولزملائه الرصيفيين معظم نصوصهم القصصية والشعرية في جريدة «النهار». «كتبت الشعر بشكل إرادي»، يقول صاحب «لا تشبه هذا النهر»، الديوان الذي استُقبل بحفاوة لافتة، فكتب عباس بيضون: «تحت طبقات النثر في قصيدة رسمي أبو علي، نعثر على الشعر كما يعثر المنقبون على عِرْق الذهب»، بينما وصف محمود درويش مفارقاته الذكية بـ«النكتة الشعرية الصباحية». أما هو، فيقول: «أعتبر نفسي قاصاً. كان الشعر نوعاً من الاحتجاج. كنت أشنّ حرب عصابات ثقافية من خلال قصائد قصيرة، تلهو وتتهكم على الدراما والغناء المتعالي في الشعر الفلسطيني يومها. المنبر موجود وأبي شقرا على الخط دائماً». «العدوُّ هو ما ليس شعراً»، كتب في ديوانه. رثى «مقهى أم نبيل». سقى أزهار شرفته بينما الطائرات الإسرائيلية تصبّ حممها على بيروت: «تلك المرأة/ الرصيف/ وهذه الحرب/ لا أحد يستطيع سرقة أشيائي الصغيرة».
مع خروج المقاومة من بيروت، اختار أبو علي الإقامة في دمشق. باستثناء أنّه واصل الكتابة والنشر في بيروت، عاش صاحب «ذات مقهى» ظروفاً نفسية قاسية. كان ممزقاً ومعلقاً في الفراغ، فراح يستعيد ذاكرته البعيدة الأكثر تماسكاً من حاضره المرضوض. هكذا، أنجز روايته الوحيدة «الطريق إلى بيت لحم»، وأهداها إلى جدته. يتذكر أن الشاعر غسان زقطان قال له إن عنوان الرواية ليس له علاقة بمضمونها، فأجابه: «العنوان هو إعلان عن نيتي في العودة إلى بيت لحم»، وهو ما حدث سنة 1997، حين رأى «مدينة أول سيجارة، وأول حب، وأول فيلم سينمائي»... وتسلل سرّاً إلى المالحة، ليجد أن الاحتلال حوّل الشارع الذي كان يقع فيه بيتهم إلى سوبر ماركت ضخم.
استقر رسمي في عمان منذ أواخر الثمانينيات، مكتفياً بارتياد مقهاه المفضّل، وكتابة مقالات متفرقة في الصحف الأردنية. يفتقد أصدقاء «الرصيف»، لكنّه لا يعرف ما حلّ بهم. يتذكر أن الشاعر غيلان زاره قبل سنوات، متحمّساً لإصدار «الرصيف» مجدداً. «كنت أعرف أن المسرح كله تغيّر، لكني جاملته وأصدرنا عدداً للذكرى». ولكن ماذا عن القصة والشعر؟ يفاجئنا بالقول: «لقد أكملت عملي، ولن أضيف جديداً لو كتبت»، ويضيف ضاحكاً: «أظن أنني لم أتجاوز قصتي الأولى «قط مقصوص الشاربين». كان عليّ أن أصمت بعدها مباشرة».



5 تواريخ

1937
الولادة في «المالحة» (فلسطين)

1971
انتقل إلى بيروت مع المقاومة الفلسطينية، وبقي فيها 11 عاماً، أي حتى الاجتياح الإسرائيلي

1980
أصدر مجموعته القصصية الأولى «قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس» (دار المصير الديموقراطي ـــــ بيروت)

1981
أسّس مع الشاعر الراحل علي فودة وآخرين مجلة «الرصيف» في بيروت

2010
كرّمه مقهى «أوبيرج» الذي يرتاده يومياً وسط عمان، وألقى شهادة شخصية عن تجربته ومسيرته