تحتضن حلمك فيتدلّل عليك ويجفو.دعه ذات مرّة يحتضنك.

■ ■ ■


أرقُّ ما يغتسل به المرء بعد أن يغوص في نداماته، صوتٌ يتداركه قائلاً: «لم تخطئ! لم تخطئ!».


■ ■ ■


لون البحر الأزرق يؤكل.

■ ■ ■


رجلٌ يُحبّكِ حتّى القبول بقتلكِ له والتظاهر بأنّه يجهل أنّكِ تقتلينه، هذا رجلٌ يحبّكِ أكثر ممّا تستحقّين، وهذا هو الحبّ.

■ ■ ■


لا تقارن ما تقرأ بما قرأت بل بما عشتَه.

■ ■ ■


لا بأس أن تكتب لقارئ، لقارئة، لجمهور، هذا طبيعي.
طبيعي أكثر، وأفضل، أن تكتب كأنّك تتكلّم مع نفسك في غرفةٍ خالية تُردّد أو لا تردّد صداك، وليس ذلك ما يهمّك وإنّما قَطْع مَمَرّ الوحدة.

■ ■ ■


كان لصديقةٍ غالية أبٌ لمّا توفيت زوجته ودّعها ثم غَلَّق على نفسه الأبواب ولم يعد يغادر بيته.
ما أنبل هذا النوع النادر من الأشخاص. يضع الواحد منهم حياته في شخصٍ واحد. مثل القجّة. قجّة العمر، كما تقول الصديقة.
يعيش مع ذكرى مَن فَقَد كراهبٍ في دير يتكرّس لربّه.
رأيتُ والد صديقتي مرّة واحدة. كان يقف كالطيف وراء الجميع. لا يراه مَن أمامه ولا يراه مَن وراءه. كان مثل الصمت. حادثته لأسمع صوته فلم أسمع غير ابتسامةٍ حَيِيّة وهمسةٍ خجولة. كان يعتذر، ربّما، لأنّ امرأةَ حياته ذهبتْ وبقي هو.
وأظنّه كان خائفاً. كان خائفاً من الناس بعدما بات وحيداً. كانت امرأته سقفه وحيطانه ونوافذه. كانت صوته. أخذت معها لمّا راحت باقي العمر وتركت للزوج أن يختار نوع بقائه.
اختار الاستمرار تحت سقفها وبين حيطانها وأمام نوافذها.
وكان هذا الدفء القاسي ما زرعه الرجل في أبنائه، وما زرعته كبرى البنات في سائر العائلة، وما تركته الأمّ ذخيرة للدفاع.
وكان إرثها ضخماً. كان سلاحاً في يد الضعيف وزهرةً في يد الأقوى.

■ ■ ■


ممّا يؤلم في الكتابة أن يكون صاحبها مخلصاً وصادقاً وأن يعجز عن نقل مشاعره إلى القارئ. كان الياس أبو شبكة يلحّ على الصدق والإخلاص ويعتبر أنّهما أسمى ما في الكتابة عموماً والشعر خصوصاً. شعارٌ رفعه الرومنتيكيّون ضدّ الصناعة الباردة والكلاسيكيّة الصارمة الخالية من سخونةِ تدفّقات الذات. وبالطبع ناقض الرومنتيكيّون ذاتهم، كما يفعل جميع الدُعاة، وتَفنّنوا، وبلغت بهم الصناعة، على الأخصّ مع فكتور هوغو، مبالغ الذُرى، ولولاها لما صمدت مؤلّفاتهم. الصدق والإخلاص أضعف الإيمان. التحدّي هو هزّ القارئ لا اهتزاز الكاتب.
حقيقةٌ لئيمة لكنّها حقيقة.
الصناعة، بل التصنّع مقبول شرط إيصاله عاطفة إلى القارئ. (ينجح في ذلك أحياناً سعيد عقل وأمين نخله، ولا ينجح بتاتاً مقلّدوهما).

■ ■ ■


أوركسترا ضخمة لعزف سمفونيا بلا ميلوديا تبقى في البال: حشدٌ عسكريّ ضخم بلا معركة.

■ ■ ■


دعاؤكَ من أجل شخصٍ تحبّه يحميه دون أن تعرفا. حتّى لو كنت أنت هنا وهو في آخر الأرض، يفعل فعل السحر.
لا تُضع الوقت، صلِّ لأجل مَن تحبّ. الحبّ يجهل الحدود والمسافات. مِن صدركَ إلى الاستجابة.

■ ■ ■


حين كانت النار تلتهم جهاز التبريد وينتشر الدخان في البيت كنتُ واقفاً أتأمّل النار. كانت تتفجّر كصُعَداء. كروحِ كائنٍ نفد صبره فراح يلعن. كان منظراً أخّاذاً، أَنساني أنّي بدأتُ أختنق بالدخان ولن ألبث أن أحترق مع ما يحترق، ولولا الجار لما هرع رجال الإطفاء والدفاع المدني.
لم تكن نار الحديد بل نار دموع تحترق.
جمالُ النار. الجمال قد يقتل قبل أن يُنْقِذ، لكنّ الجار، أي الحافة، كان هناك.

■ ■ ■


هناك، لا شكّ، معجزات. وإن طاولها الشكّ تصبح أجمل. منها: براعةُ اليافع في العزف على البيانو، وملامسة يفاعه الأسئلة الكبرى، ونهمه إلى البحث، وجمعُهُ عَبَث الغلام إلى دفء عمقِ كهلٍ يرفض أن يتخلّى عن مداعبة الضحك.
أيّها الحفيد، تحمل اسم أبيك شراعاً واسم جدّك لأبيك سفينة. وتعتبرك أختك نايا قدوة. وأنت لها. وبوصلة نايا _ وحجمها حجم وردة _ بمفعول ساحرة إغريقيّة.
أكتُب للراشدين كي يحتضنوا فيّ الطفل وللأطفال كي يحاكموني.
أكتبُ لكَ وأنت تهمّ بمغادرةِ الطفولة، أكتبُ لأدعو لكَ بأن تغادرها لماماً وتستبقيها جدّاً، متظاهراً، كي لا تُرهقها، بأنّك ذلك الكبير.

■ ■ ■


«لو فقط تتظاهرين بأنّكِ تحبينني. ما عليكِ إلّا أن تقولي: «أحبّك». القلب سيَتْبَع. القلب دوماً يَتْبَع: إنّه كالكلاب.
(بول جان تولي _ 1867 _ 1920)

■ ■ ■


يجب أن يكون في النثر التواضع المعبَّر عنه بجهودِ الوزن والقافية في الشعر المنظوم. فهما فعلاً تواضع وتضحية كبيرة.
بصرف النظر عن المضمون والمعنى.
تواضعٌ على النثر أن يجده، وعلى كلّ ناثر، شعريّاً كان أم قصصيّاً أم فلسفيّاً ومقاليّاً ومؤرّخاً أم في أيّ بابٍ كان، على كلّ ناثر أن يجد الوداعة ليكتب والتواضع الذي يخلع به عن نفسه أمام القارئ كلّ ادّعاءٍ وعنجهيّة.
القوّة الأدبيّة هي، كالنظرة، شعلةُ الداخل. شعلةٌ يغسل ماؤها أقدام الأطفال.

■ ■ ■



في جملة الأخطاء الشائعة أنّ الفنّ يستلهم الحياة. الحقيقة أنّ الحياة تستلهم الفنّ.

■ ■ ■


لا أعرف أأحبّ أم أكره منظر وَلَدٍ صغير يمسك بيد جدّه وهما يتمشّيان على الرصيف. الشمس الشارقة ومغيبها. لا أعرف مَن يؤثّر أكثر: الطفل وبراءته أم العجوز المتدهور. وَلَدٌ سوف يكون وشيخٌ كان.
ومثلهما الأماكن. كانت دمشق عروس العرب وسوريا وطن الطيبة. كانت باريس باريس في القرن التاسع عشر وفي العشرين قبل أن تغزوها المطاعم الأميركيّة واللغة الانكليزيّة. كانت القاهرة عاصمة الشرق قبل أن تنفجر ديموغرافيّاً.
ومثلهما ومثلها الأزمنة. الشباب يرعى الحاضر. الكهولة ترعى الجسور. الشيخوخة ترعاها الطفولة.
ولدٌ صغير يمسك بيد جدّه صورةُ سخريةِ الحياة ومجدها.

■ ■ ■


للجسد ذاكرة سطحيّة، على عكس الذاكرة الذهنيّة أو الفكريّة أو حتّى، في بعض الأحيان، الذاكرة النفسيّة _ الروحيّة. يتذكّر الجسد ليلةً جنسيّة (ولماذا «ليلة»!؟) كما يتذكّر المرء كتلةً أو برقاً، صعقةً أو صدمة، بلا تفاصيل، وكشيءٍ مضى. ذاكرة الجسد تُنهي، تطوي الصفحة.
الذاكرة الذهنيّة _ الفكريّة _ النفسيّة _ الروحيّة تُفنّد، تستغرق، تتلذّذ بالطريدة بعد قنصها وافتراسها أكثر ممّا تتلذّذ أثناء أكلها.
وما يحتلّنا هكذا، إنّما نعيد اختراعه.


■ ■ ■


يقول لك الشرّير: «تخلّص من شعور الذنب!». ويقول لك رجل الطيبة: «أنت لا ذَنب لكَ بل طفولة، زنابق المذبح تُشبه جبينك!».
ماذا تقول أنت؟
أقول أنّي أوركيديا، أزول ثم أعود. أزول مع الهواء وأعود مع الشمس، ريثما في بعد ظهرٍ ما تحملني المياه بلا تراب كما حملتْ أوفيليا من أعلى الشمال إلى دجلة والفرات.
كانت زيارتي هنا موجزة لأسبابٍ قاهرة، لكنّي هنالك أزور كلّ شيء، وأطمئنّ إلى سلامة العناصر التي تحميني من بشريّتي.
ليس في عينيّ اليوم شيءٌ من عالمي.
لقد أفرغتُ كياني لأملأه بخلائق المجهول.
سئمتُ الآلهة. أريد أن أعايش كائنات بلا أسماء.
ولن أسمّيها كما فعل آدم فاستعبدَتها أسماؤها.
سأطلب منها هي أن تسمّيني، وأن تقرّر مصيري، وتقرّر مصير البشر.
أفرغتُ كياني لا للشمس بل للأشياء الحميمة التي تحتويها، ولا للقمر بل لدموعه، ولا للأرض بل لمَن يطير فيها ولا تُحدث أجنحته ضجيج الزحف بل تجعل عاصفة التغريب تَهبّ.
أحلم بأن أعير جثماني للكائنات التي لم نألفها. لغير المدجَّنة ولغير ما نأكل. لكائناتٍ تخشانا أو تهرب منّا، كالأيائل والأرانب والحمام والسمّن. وأن نتصاحب ونسكن معاً. وأحكي لغتها. وأتعلّم منها صبرها على الإنسان وأحاول أن أخلّصها.
لم يعد أمامنا ثورات جديدة إلّا مع الكائنات التي لا نعرف.