بدأنا نصل إلى نقطة الخطر. خشينا دوماً من أيّ شيء لأنّ أيّ شيء قادر علينا، فكيف إذا كان المفتن يمتلك سلاح إضرام جميع أنواع النيران في كلّ لحظة وفي أيّ بقعة من العالم؟اقترح سمير جعجع إقامة دعاوى ضد منتجي فيلم «براءة المسلمين» وهي فكرة وجيهة واقترح عقد مؤتمر ديني مختلط في بكركي لتدبيج بيان. فكرةٌ مفيدة داخليّاً على صعيد التهدئة لكنّها عديمةُ التأثير في الغرب لأنّ الغرب سيقول هؤلاء هم المسيحيّون العرب يمالئون المسلمين خوفاً من تحوّل المسيحيّين إلى كبش محرقة وهؤلاء هم المسلمون يسايرون مواطنيهم المسيحيّين حتّى لا يكسروا خاطرهم.
ووجهاتُ نظرٍ عديدة أخرى لأكثر من شخصيّة، أهمّها تهديد السيّد حسن نصر الله لأميركا «بمضاعفاتٍ خطيرةٍ جدّاً جدّاً جدّاً» إذا عُرض فيلم «براءة المسلمين» كاملاً في الصالات.
الراغبون في الصدام يعرفون مدى حساسيّة الإسلام. يُلْعَب مع المسيحيّين ولا يُلْعَب مع المسلمين. العرب ضعفاء لكنّ الإسلام قويّ. تؤخذ من العرب فلسطين دون عناء يُذْكَر ولا يسكت المسلمون على إهانة دينهم. إذاً، العزف على الوتر الديني، وقد تكرّر في أميركا وقبلها في أوروبا حيث يكاد يصبح يوميّاً، وآخره رسوم «شارلي ابدو»، هذا العزف ليس مجانيّاً ولا هو تصرّف موتورين وإنّما تطبيقٌ لمنهج، ومعرفةٌ «مطمئنّة» إلى ردود الفعل.

■ ■ ■


الحلّ لتفادي نشوب حربٍ كونيّة إعداميّة هو تعايش الثقافات لا إفناءُ بعضها لبعضها الآخر. بصرف النظر عمّا نعتبره تخلّفاً أو تقدّماً. التعايش هو ما يُخصب ويُفتّح. ماذا يعني أن يتحوّل الكوكب الأرضي كلّه إلى غابةٍ واحدة بنوعِ شجرٍ واحد؟ أهذا هو حلم آدم الجديد؟ أم هو مشروع روما الجديدة؟
إنّ ما حصل ويحصل من انكماشٍ إسلامويّ وتصلّب في ردّ الفعل إنّما يحقّق أهداف المشروع الأميركي _ الصهيوني ولا يعارضه. الانفتاح مع الأصالة هو مفتاح النجاة من التلاشي، والتلاشي حتميّة محقّقة في الحالين: حال الذوبان في الأوقيانوس وحال الانغلاق والغوص الانتحاري في كوابيس التعصّب. التحدّي أمام الإسلام (وغداً أمام الصين والهند واليابان إلخ...) هو القدرة على البقاء إسلاماً دون استدراج الغرب إلى محاربته. واستدراجُ الغرب يبدأ بالأصوليّة وتفادي الوقوع في الفخّ يكون بالأصالة المنفتحة المشرقة الراغبة في معرفة الآخر والمتطلّعة بشغف إلى عالمه والمضيافة بشغف كذلك لفضول الآخر وتطلّعه إلى اكتشافها.
لقد دخل الإسلام في الجغرافيا المعاصرة بأسرها وبدأ يصبح مكوّناتٍ أساسيّة في العديد من المجتمعات الغربيّة. وآن له أن يدخل في التاريخ الحديث بشجاعةِ الواثقِ من نفسه، المتمتّع بالحقوق ذاتها للأديان الأخرى وبواجباتها.


■ ■ ■


الكراهيّة الدينيّة سريعة الاشتعال، وليس هناك أشدّ دماراً منها. كانت مهمازاً للمجازر ولا تزال وإنْ بمسمّياتٍ سياسيّة. وأكثر هذه الأديان تبشّر بالتسامح والمحبّة. قد يتسامح فيها الأفراد ويتحابّون وما إنْ يلتئموا جماعاتٍ حتّى تستيقظ فيهم شهوة إلغاء الآخر.

■ ■ ■


يقول صموئيل هنتينغتون في كتابه «صدام الحضارات» إنّ «جميع الذين يبحثون عن هوية وعن وحدة إثنيّة يحتاجون إلى أعداء». ربّما. ولكن لماذا لا نقول إنّهم يحتاجون إلى أصدقاء يعينونهم في هذا التفتيش المشروع والنابع من فزع الطفولة في الشعوب وفي الأفراد؟ لماذا يُتَّهَم الضعيف المتمسّك بجذوره ولا يُتَّهَم القويّ الراغب في محو ذاكرة الأضعف وتذويبه في أوقيانوسه؟
يقول «صدام الحضارات» أيضاً إنّ الإسلام أفاد ابتداءً من سبعينات القرن الماضي من ارتفاع أسعار النفط لمحاولة قلب المعادلة السابقة، أي الغرب المسيطر على الشرق، إلى المسلمين المهيمنين على الغرب، ليس إظهاراً لقدرةِ المسلمين، «بل ازدراءً بالمسيحيّة». ويمضي هنتينغتون في استشهاده بجون كيلي فيقول: «إذا وضعنا أفعال الدول المنتجة للنفط في سياقها التاريخي والديني والعرقي والثقافي، تصبح بكلّ بساطة مجرّد محاولةٍ لوضع الغرب المسيحي تحت نير الشرق المسلم».
يظلّ مثل هذا الكلام فولكلوراً سياسيّاً إلى أن يبدأ هنتينغتون باستعراض الخطر الديموغرافي، فيقول إنّه، في حين أنّ تصاعد نجم الشرق الأقصى غذّاه ازدهار اقتصادي باهر، فإنّ انبعاثَ الإسلام قد غذّاه تزايدٌ صاعقٌ لعدد السكّان. ويسمّي بالتحديد بلاد البلقان وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى. وإذ يقف تزايد السكّان لدى غير المسلمين عند حدود 1.85 في المئة، فإنّه يرتفع في المجتمعات الإسلاميّة إلى 2 في المئة وأحياناً 3 في المئة. ويستخلص: «بالإجمال كان المسلمون عام 1980 يمثّلون 18 في المئة من سكّان العالم، وعام 2000 سيصبحون بالتأكيد 20 في المئة. أمّا سنة 2025 فسيرتفع عددهم إلى 30 في المئة». (صدر الكتاب عام 1996).
نفهم من الكتاب كذلك أنّ المسلمين يشترون الغرب أماكن وضمائر بأموالهم وقريباً يصبحون ثلث البشر ولا يعودون بحاجةٍ إلّا إلى حوافز العصبيّة والثأر فضلاً عن غريزة الغزو لدحر الغرب في عقر داره.
لم يخبرنا هذا الكتاب ولا أحد كيف سيستغني الإسلام المنتصر بالمال والإرهاب عن الأدمغة. هل سيباشر صناعة الأسلحة التي يبيعها إيّاه الغرب ابتزازاً ودون أيّ حاجةٍ لها؟ هل يبدأ المسلمون سادة العالم الجدد باختراع التكنولوجيّات الما بعد الحداثة؟ وكيف سيلجمون الغرب العلماني والغرب الملحد والغرب الحرّ عن مواصلة ممارسة عاداته وتقاليده؟ أم أنّ صلاح الدين الأيّوبي الجديد، سواء كان حجازيّاً أم فارسيّاً، سيشكّ سيفه فوق دماغ العالم ويثبّته بقوّة عضلاته فضلاً عن أكياس ذهبه؟
في تقديرنا المحدود أنّ مثل هذا الكتاب وهذه النظريّات لا تحذّر من سقوط الحضارة الغربيّة، وقد سقطت جوانب عديدة منها، بقدر ما مهّدت وتمهّد لحروبِ إحكام السيطرة الرأسماليّة الغربيّة على العالم، بدءاً من أفغانستان والعراق والآن سوريا وغداً سائر الدول العربيّة. وهذا قطعاً، للمناسبة، ليس الغرب المسيحيّ وإنّما غرب المخطّطين الاستراتيجيّين الصهاينة من كلّ الأديان، بما فيها الإسلام.
غير أنّ التفكيك في مصدره وأهدافه عبقريّة واحدة هي التي توحي وتدير وتُشغّل الآخرين.
من تفكيك الأنظمة إلى تفكيك الذرّة إلى تفكيك العقل الباطن إلى تفكيك الفنّ إلى تفكيك اللغة إلى تفكيك الشعوب.
وخلْفَ هذا التفكيك يقف في الواجهة غولٌ يسكرُ بسطوته وتقف خلف الستائر أصوليّةٌ غير قابلةٍ للتفكيك، أصوليّةٌ تعمل على الغرائز ولم تُخْذَل في التاريخ مرّة إلّا استثمرت هزيمتها وحوّلتها إلى انتصار.

■ ■ ■


فدائيّون
أقرأ ياسين الحاج صالح في «ملحق النهار» وأقول: لن يجعلونا كلّنا نيأس. ها هوذا رجل شبع سجناً ويعيش تحت الخطر ولا يزال يسدّد اللكمات. ها هوذا رجل يقول لا لا، نعم نعم.
ومثله عشرات في سوريا ذاتها. في العراق ومصر واليمن والبحرين والسعوديّة وتونس ولبنان. رجالاً ونساءً.
يرى المرء نفسه صغيراً أمام مَن يصمد على موقفه في الأهوال. لعلّ السرّ هو في أكثر من الانتصار على الخوف: لعلّه في شغفِ الخطر، حيث تغدو المخاطرةُ البرهان الحسّيّ الوحيد على وجود معنىً للحياة.


■ ■ ■


هاوية في السماء
مَن يحكم الآخر الجذور أم الأعماق؟
لا أعرف.
الجذور تنشب جوارحها في باطن الأرض، الشجرةُ تنتصب في وجه القمم وعلى شفير المنحدرات.
مَن يحكم الآخر المُكافح أم مادّة الكفاح؟ الإنسان أم الشهوة؟ الطائر أم الريح؟
لنجاوب في استبعاد فكرة التحكّم. الأعماق مخيفة، الجذور تؤنسها. الشجر يسافر واقفاً. الإنسان يتحكّم في شهوته والشهوة تتحكّم في الإنسان. الطائرُ يلعب ويرتزق والريح هاوية في السماء.