عندما قرأنا على صفحته الخاصة في الفايسبوك، في الأيّام الأخيرة من آب (أغسطس)، أنّه «تلقى شيئاً من الثقافة التي يبشر بها السلفيون»، لم نستغرب. ذلك أنّ من يعرف محمد الصغير أولاد أحمد منذ ثلاثين عاماً، يدرك أن معركته مفتوحة من البداية مع «وزراء الله»، كما يسميهم نقلاً عن لينين. ذنب الشاعر أنّه قرأ قصيدة لاذعة في برنامج تلفزيوني على «التونسيّة»، ما أثار حنق بعض المهتاجين. كتب على صفحته في موقع التواصل الأشهر: «لست أول من تم الاعتداء عليه ولن أكون الأخير. منذ هذه اللحظة لم أعد اعترف بأية شرعية. ولن ينجو أي مدني أو عسكري، صامت عن هذه الممارسات، من قنابل الشعر وصواعق النثر».
منذ حلّ أولاد أحمد ضيفاً على الحاضرة، أي منذ وصل ذات خريف غامض إلى العاصمة التونسية قادماً من أحراش الوسط الغربي، من بلدة منسيّة اسمها سيدي بوزيد ستصبح بعد أكثر من 30 عاماً عاصمة للثورة العربية، اختار هذا الشاعر الملعون المواجهة نهجاً وفلسفة وجود. المواجهة ليس مع السلطة بمعناها السياسي فقط، بل مع السلطة بمفهوم بنية التفكير السائدة. وقد درّب نفسه على اللكمات بمعنييها المادي والرمزي.
منذ البداية، مطلع الثمانينيات، جاء أولاد أحمد إلى العاصمة بكل غبار أرياف سيدي بوزيد الفقيرة، حاملاً جراح الفلاحين وعذاباتهم وحكايات قبيلته «الهمامة» المنتشرة في كل مناطق الوسط الغربي والشمال. جاء إلى مقهى «الزنوج» آنذاك الذي كان يجمع المغرّدين خارج السرب من فنانين وشعراء وصحافيين ونقابيين، ويساريين خارجين لتوهم من السجن بسبب أحلامهم بحياة سياسية ديموقراطية وعدالة اجتماعية. كسر بنية اللغة الشعرية السائدة واختار نمط الشعراء الصعاليك في العيش والكتابة. حوّل الشعر إلى لغة يومية تنطق بما يقوله الناس، فيما أصحاب ربطات العنق الشعريّة يتبارون كل عام في الكرنفال الشعري احتفاءً بولادة الزعيم الحبيب بورقيبة. الصغير كان يلتقط الكلمات التي بصقها المهمشون من سكان الحانات والمناطق النائية المهمشة والمُقصَون من المشهد الاجتماعي.
«أبحث عن علاقة أخرى مع اللغة»، يردد دائماً، ونحن «نتدهور» في الأزقة العتيقة لـ«المدينة» بحثاً عن مطعم «لبلابي» آخر الليل، في باب سويقة، أو باب الجديد، أو باب الجزيرة، وغيرها من محطّات رحلاتنا إلى العالم السفلي للعاصمة. واليوم حين تسأله، يستعيد البرنامج الشعري ــ الوجودي نفسه الذي كان يزيّن سهراتنا الماطرة عند باب البحر في التسعينيات. «لقد خسرت كل شيء من أجل الشعر، الكتابة هي مهنة الخسارة. ضحّيت بابني ناظم، وعائلتي وأمي وقبيلتي، ومنحت نفسي للكتابة. في الشعر لا يمكن أن تكون محايداً: إما أن تختار الشعر، أو تبقى مواطناً صالحاً يعتني بالعائلة والإصهار، ويشاهد المسلسلات العربية، ويشرب الشاي بهدوء». كأن شيئاً لم يتغيّر. كأن رياح التاريخ لم تعصف بالمنطقة، بل تجشأ التاريخ قليلاً، ما يكفي لنقفز بضعة عقود إلى الخلف. هكذا عاش أولاد أحمد الذي اكتشفنا قصائده مطلع الثمانينيات. كان كاتب هذه السطور صبيّاً يافعاً في الصحراء لم يتجاوز البكالوريا، يتعرّف إلى الأشياء في صحف كـ«الرأي» و«المستقبل» ومجلة «الموقف»، وغيرها من الصحف المستقلة والمعارضة التي يتصفّحها سرّاً، بعيداً عيون الميليشيات الحزبية.
أشعل أولاد أحمد الحرائق في الشعر التونسي، ولمع نجمه في المشهد الذي كان يعاني ثقل البلاغة الجوفاء. في شتاء ٨٤ القاسي كتب قصيدته الشهيرة «نشيد الأيام الستة»، فكان نصيبه السجن، وخسر عمله، بتهمة ملفقة برع الأمن التونسي دائماً في إلصاقها بالمتمردين على سلطة الحزب والحكومة: «النفقة وإهمال العيال». اعتقال أولاد أحمد عبّأ الشارع الثقافي الذي انبرى للدفاع عنه، وتحولت قضيته إلى قضية رأي عام. فكان أن أطلق سراحه، ليصبح الناطق الشعري باسم المعارضة التونسية واليسار الطلابي والنقابي. وكانت بداية الظهور الإعلامي الواسع لمحمد الصغير أولاد أحمد الذي تحول إلى جانب آخرين، رمزاً لجيل يطالب بالحريّة. لكن الموعد مع الحريّة سيتأخّر قليلاً. مجموعته الأولى التي منعت بسبب تشنّج نظام بورقيبة، لم تصدر إلا في خريف 1987، بعد انقلاب زين العابدين بن علي الذي استقبله الشاعر بقصيدة شهيرة أخرى: «أقبل الجيش علينا ببيان مدني».
الشاعر الراديكالي يقول لنا إنّه لم يختر مواقفه، ولم يحسب نتائجها. هكذا ولد، وهو منذور للتمرّد والعصيان. «أنا كاتب يساري منذ الولادة»، كان يردّد أيّام البطالة والتشرد والقمع في عهد بن علي. فناله ما ناله من التشويه والعنف: «لقد حولوني إلى جحا الشعر التونسي». وعندما رفض وسام بن علي سنة 1991، وكتب رسالته الشهيرة إلى الرئيس معتذراً عن قبول وسامه، مطالباً بسخرية بثمن ربطة عنق وبذلة جديدة حتى يكون في مقام الرئاسة، اقترح مستشارو الرئيس المخلوع أن تعمل السلطة على انخراط أولاد أحمد في الحياة العامة. في خريف ١٩٩٣ أسس «بيت الشعر» الذي يعتبره إحدى مجموعاته الشعرية، لكنّ المنصب الجديد لم ينجح في تدجينه. هكذا حُرم إمكانيات العمل، ولم تعوضه الدولة عن سنوات الطرد من الوظيفة بسبب مواقفه اللاذعة في عهد رئيس الوزراء الراحل محمد مزالي، حليف الإسلاميين آنذاك. وكلما ازداد الحصار على المبدعين وحرية الإعلام، كان أولاد أحمد يبتعد عن السلطة إلى أن ألقى كلمته الشهيرة في ملتقى الشعراء العرب في خريف ١٩٩٧، وفيها أدان تضييق السلطة على الحريات. بعد ساعات، كان الصعلوك مجدّداً في الشارع الذي قال عنه «أسكن في الشارع وأنام في بيتي».
الصغير، بقامته النحيلة وصوته البدوي الذي خربه التدخين، لم يتوقّف عن التنديد بالسلطة. في 1999، عندما حاصرت الحكومة توفيق بن بريك ومنعته من السفر لولا تدخل فرنسا، كتب أولاد أحمد مقدمة كتاب الصحافي الذي أرق بن علي ليزداد عداء السلطة له… منع من إحياء الأمسيات الشعرية، ومن الكتابة في الصحف «المستقلة». وعندما اندلعت انتفاضة سيدي بوزيد، كتب مقالات راح يوقعها باسم «القيادة الشعرية للثورة التونسية». هل هي المصادفة شاءت للشاعر أن يكون من المدينة نفسها التي ينحدر منها محمد البوعزيزي؟
ذهب بن علي، واستفحلت وصاية «وزراء الله»، كما يسميهم. بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم، تحول أولاد أحمد إلى «قائد ميداني» للمعارضة العلمانيّة. صارت معركته هي التحريض على العصيان، لأن الثورة خاضها الناس من أجل الحرية، لا من أجل العودة إلى الكهوف. وكان ظهوره على قناة «التونسية» لقراءة قصيدته «جواب الشرط» كافياً لتجييش السلفيين. اعتدوا عليه وهو منهمك في لعبته المفضلة الورق، ثم لاذوا بالظلام الذي يعرفونه جيداً. وبقي هو في دائرة الضوء: «إذا لم تجد حجراً للوضوء/ فقل أكثر الدين في سورة المائدة/ إذا كان ربي حبيبك وحدك/ أخبره أنا يتامى، وأنا خلقنا بلا فائدة». هكذا كتب في قصيدته الأخيرة. القرّاء تذكّروا قصيدة قديمة له تعود إلى الثمانينيات، عنوانها «الأدعية»: «إلهي.../ لقد تم بيع التذاكر للآخرة/ ولم أجد الوقت والمال/ لكي أقتني تذكرة/ فمزق تذاكرهم يا إلهي/ ليسعد قلبي بالمغفرة». ألم نقل لكم إن الصغيّر أولاد أحمد لم يتغيّر؟




5 تواريخ

1954
الولادة في سيدي بوزيد (تونس)

1980
هاجر إلى العاصمة مطلع الثمانينيات ونشر قصائده الأولى في صحف المعارضة

1984
خلال ثورة الخبز الدامية كتب «نشيد الأيام الستة»، ومنعت السلطة مجموعته الأولى. من أبرز أعماله اللاحقة: «تفاصيل» (1989)، «جنوب الماء» (1992)، و«الوصية» (2002).

1993
أسّس «بيت الشعر» وتولى إدارته حتّى عام 1997

2012
الاعتداء عليه بسبب قصيدة من قبل
إحدى المجموعات الوهّابيّة