يا للصدفة! اكتشف المحلّلون، مع قضيّة ميشال سماحة، وجهاً جديداً من تحكّم الاستخبارات في مصائرنا. مع أن العديد من هؤلاء المحلّلين هم أنفسهم إمّا مخبرون لدى أجهزة الاستخبارات أو يطمحون إلى ذلك. لكنّ هذا موضوع آخر.الحقيقة أنّ التحكّم الاستخباراتي المشار إليه قديم جداً. وكان الأمويّون عهد معاوية يسمّون رجال الاستخبار «العيون والآذان». ومنذ وُجدَت سلطة وسلاطين وُجد العسس. وحديثاً في لبنان عندما كان يُغتال صحافيّ أو رجل سياسيّ كان المسيحيّون يتّهمون المسلمين والمسلمون المسيحيّين والقاتل دائماً جهاز استخبارات، ويظّل «غامض» التسمية وخارج المحاسبة. على سبيل المثال نسيب المتني صاحب جريدة «التلغراف» وفؤاد حدّاد نجم جريدة «العمل» وكامل مرّوة صاحب «الحياة». والأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو الذي يقال إنّ رئيس الاستخبارات السوريّة عبد الحميد السرّاج ذوّبه بالأسيد.
إلى آخره.

ما يسمّونه ثورة 1958 كان تدبيراً استخباراتيّاً سوريّاً ــ ناصريّاً على خلفيّة الصراع بين حلف بغداد وجمال عبد الناصر. ما يسمّونه الحرب اللبنانيّة بدءاً من عام 1975 كان حياكة استخباراتيّة أميركيّة إسرائيليّة سوريّة بتمويلٍ ليبيّ عراقيّ سعوديّ. الذي سمّاها «حرب الآخرين على أرض لبنان» كان يعرف مدى عجز العقل اللبناني عن حفر مقبرة جماعيّة هائلة كهذه وعجزه عن سوق الفلسطينيّين واللبنانيّين إليها بمثل تلك النخوة الانتحاريّة.
ميشال سماحة، وهو مثقّف وإعلامي وذو خبرة سياسيّة منذ نشأته في مصلحة الطلاب في حزب الكتائب عهد بدايات بشير الجميّل حتّى عمله مع الياس حبيقة انتهاءً باندماجه في النظام السوري، ميشال سماحة ضحيّة صراع أجهزة بقدر ما هو ضحيّة نفسه.
لا ندري بالضبط متى اهتدى سماحة إلى صراطه السوريّ ولكنّنا نعتقد أنْ لا ريب في صدقه. إنّه من الصنف الشغوف المتحمّس. لماذا إلى الحدّ الجنوني المتّهم به، علماً أنّ التهمة لم تصدر بعد في قرار ظني؟
أسذج شخص يعرف أنّ التورّط مع الأجهزة، مهما كان صعيد التورّط، مخيف العواقب. والأجهزة السوريّة شهيرة ببطشها ودهائها. وأسذج شخص يعرف أن شعرةً لم تسقط من رأس أحد في لبنان طوال عقود إلّا بإذن الأب الذي في دمشق. والأب الذي كان في دمشق لم تفته شاردة ولا واردة من أمور اللبنانيّين بفضل نشاط استخباراته. وأسذج شخصٍ يعرف أنّ أسرع مَن يدفع ثمن التورّط مع الأجهزة ودول الأجهزة هو المتحمّس المندفع الشغوف.
فكيف وقع ميشال سماحة؟
البعض، لشدّة «إيمانه» بدهاء النظام السوري، يقول إنّ سماحة لم يقع ولم يوقَع به وإنّها كلّها لعبة على اللبنانيّين سيخرج منها سماحة بطلاً.
نحن ميّالون إلى الاعتقاد أنّه تمّ الإيقاع بالرجل. بمثل اندفاعه وحماسته لا يوقع به مخبر فقط بل تُوقع به نفسه.
لا يُلْعَب مع الأجهزة. هذه لها محترفوها. وأولّ شرطٍ لاستمرار نجاتهم هو أن يكونوا «فوق أعصابهم». لا يُلْعَب مع الأجهزة. الأجهزة تَحْكُم مَن يحكمنا ومَن يحكم مَن يحكمنا. الأجهزة تدير العالم.

■ ■ ■


تُرى، لو كان نظام الأسد ما زال على قوّته هل كان أُوقف ميشال سماحة؟
من عادة ابن الشعب القول إنّ «الدولة بتعرف كلّ شي وقت اللّي بدّا». تفسيره أنّها حين لا تُقْدِم فلأنّها إمّا موضوعة عليها اليد وإمّا متواطئة. هل لم تعد اليد موضوعة على الدولة؟ هل هو، كما سمّاه الياس خوري في مقالته بصحيفة «القدس العربي»، ربع الساعة الأخير، عندما يستيقظ النيام؟
ما شهده بحر الأسبوع من شروق شمس العشائر يوحي أنّ الدولة أمعنت في الغرق.
هل هي العشائر فقط أم أيضاً اصبع من اصابع الاستخبارات؟
المؤكّد أنّ المخطوفين ليسوا وحدهم مخطوفين وأنّ الدواليب ليست وحدها ما يحترق في لبنان.



كُتُب

■ ■ ■


■ كتابان لهنري زغيب واحدٌ عن سعيد عقل وآخر عن جبران خليل جبران. الأخير يضاف إلى خيرةِ ما وُضِعَ من دراسات عن جبران، توثيقيّاً وانطباعيّاً. الأوّل يختلج فيه عصب صاحب «رندلى» بمفاهيمه الفذّة ونظريّاته الكاسرة، مثل قوله إنّه شاعرُ افتعال، وانّ كلّ ما كتبه افتعال. جرأةٌ هائلة، وإنْ تكن صفةُ الافتعال هنا خصماً لنظريّة الإلهام والتجربة والعاطفة. كان الياس أبو شبكة رمزاً لهذه النظريّة الرومنتيكيّة. وهاجم سعيد عقل مراراً على «افتعاله» وفاليريّته، ولم يُجِبْهُ سعيد عقل مباشرةً ولا مرّة. عاقبه بالصمت. لكنّه هنا يجيبه مداورة، وبعنف. وقد نحار مع مَن نقف... مع الاثنين في واحد، ربّما، معطوفَين على ما ينقص كلّاً منهما.
■ عن «دار الجديد» صدر «قراءة في رواية يوم الدين» للباحث السوري إبراهيم محمود. و«يوم الدين» رواية لرشا الأمير (2002) صدر منها حتّى الآن ست طبعات. يقول: «عندما يكون شاعرٌ كبير في مقام المتنبّي هو المحور المنافس للسارد والمتداخل معه، لا بدّ أنْ يأخذنا تصوّر الكاتبة إلى كلّ ما هو مثير وحتّى عجائبيّ عمّا يحدث الآن، كما يجد له نظائر في الماضي».
■ وعن الدار نفسها صدرت الطبعة الثانية من «ديوان الحلّاج» الذي أعدّه وقدّم له عبده وازن بدراسةٍ أحاط فيها بمختلف وجوه الحسين بن منصور عاشق الله حتّى الموت وعاشق العذاب حتّى الله. واستند وازن في جمع ديوان الحلّاج إلى إنجازين سابقين، واحدٌ للمستشرق لويس ماسينيون وآخر لكامل مصطفى الشيبي.
جهد يُشكر عليه صاحب «حديقة الحواس» وصاحب اليد البيضاء نقديّاً على الأدب المعاصر، ولا سيّما اللبناني منه. ومَن أفضل من الشاعر ناقداً، بل باحثاً ومكتشفاً؟ يدور عبده وازن حول الحلّاج دورةً جامعة، حافلة بالمراجع ووهّاجة بالانطباع الذاتي. وازن واحدٌ من قلائل، في طليعتهم شوقي أبي شقرا وعبّاس بيضون وحسن داود وبول شاوول وعقل العويط وأحمد بزّون وربيع جابر، لم يُفقدهم العمل الصحافي أو التدريسي الطاقة على التأليف الأدبي. كتاب كـ«ديوان الحلّاج» يستغرق جهد عمر، ولم يتراجع عنه المؤلّف. في عبده وازن طفلٌ وأستاذ.
■ كوليت صليبا زميلة صديقة من عهد «النهار العربي والدولي». دخلت علينا ذات يوم ومعها نفحة من هواء بتغرين النقي. نفحة ما زالت نفحتها بعدما مضى على زواجها وهجرتها إلى أميركا أكثر من خمسة عشر عاماً. «نساء عربيّات في أميركا» عنوان الكتاب الذي أصدرته أخيراً (مئة صفحة من القطع الكبير) في ماساشوستس وفيه تسلّط الضوء على وقائع من حياة النساء العربيّات في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى مقابلات مع ثلاثين سيّدة عربيّة من مختلف الأقطار العربيّة وفي مختلف الولايات الأميركيّة، والموضوع الرئيسي في الكتاب وفي المقابلات هو الدور الذي تضطلع به العربيّة في الحفاظ على تقاليد بلادها الأمّ والوفاء للجذور، ويتبيّن للمؤلّفة أنّ هذه المسؤوليّة تقع في المقام الرئيسي على المرأة، وكأمّ في الدرجة الأولى.
نادراً ما لمسنا لمس اليد مثل هذا التشبّث بالجذور. هواء بتغرين الصافي، يومَ يكاد الذوبان في الغربة أنْ يصبح القاعدة.
■ «أنا، هي والآخريات» رواية لجنى فوّاز الحسن (الدار العربيّة للعلوم ناشرون») تروي فيها البطلة كيف «تغيّرت مع مرور الزمن (...) وقد ارتجلت وجودي دائماً من أماكن غير متوقّعة».
نبصر واقع الارتجال في ما بعد. مع أنّ الحياة، مع أنّ العلاقات، مع أنّ ما نسمّيه القَدَر هي سلسلة ارتجالات. لولا هذه الارتجالات لانطوت العلاقة بإتمامها في المرّة الأولى. المرّات التالية ليست تكراراً بل ارتجالات وكلّ ارتجال يُنسي ما قبله فتبدو العلاقة جديدة جذّابة مع أنّها تكون، من وراء عيوننا، قد بدأت تدنو من حافّة السقوط، من يقظة وعي التكرار والرتابة. «لطالما وقفتُ على مسافةٍ من حياتي وتركتها تحدث. لعبتُ دورَ المتفرّج فيها». تشخّص الكاتبة نفسها وحالاتها بواقعيّة حادّة مدهشة، بقسوةٍ تريد ذاتها عادلة، رابطةَ الجأش. وتحلّل شخصيّات مَن حولها وطبائعهم ببرودِ الجرّاح ولكنّه هنا جرّاح جريح. ساخرة بمرارة متقشّفة، إيجازيّة دون إغفال، صادقة في اعترافاتها الحميمة صدقاً يوجب الاحترام لما ينطوي عليه من شجاعة، ولأنّه يحاذر الإثارة ومع هذا لا يخلو منها ولكن في سياقٍ هامس كشخصٍ يخاطب نفسه في سجن انفرادي.
«كيف تحوّلتُ من تلك المثاليّة إلى امرأةٍ خائنة وقذرة؟ لم أعد أذكر (...) كيف وجدتُ نفسي وأين فقدتُها؟ كلّ ذلك لم يعد يعني شيئاً، إذ لا قدرةَ لي على محوه. لا قدرةَ لي على الغياب، ولا مفرّ من الحياة».
ألمٌ يحتفظ بعذابه رغم كَشْفه، مناخ قهرٍ قَدَريّ، مناخُ عَبَث ينزف دم القلب، ينزف ظلم الأيّام، ينزف توقاً مخنوقاً وشبه مستحيل إلى الفرح.
الصدق الخالص من الاستعراضيّة والاستفزاز، صدق في ظلال أنوثةٍ جمعت بين جوهر الخَفَر والحدّ المهيب من الصراحة.
توّجت المؤلّفة روايتها بهذا القول لنيلسون مانديلا أرى من حسن الدلالة أنْ أختم به: «إنّي أتجوّلُ بين عالمين، أحدهما ميت والآخر عاجزٌ أَنْ يولد. وليس هناك مكان حتّى الآن أريحُ عليه رأسي».