القاهرة | أمس، غيّب الموت الموسيقار المصري محمد نوح عن 75 عاماً. اسم يصعب تجاهله عند التأريخ للموسيقى المصرية في السبعينيات. كان الراحل من بين أبرز من سعوا إلى تطوير الأغنية وتخليصها من الركود الذي اختصر محتواها في المعنى العاطفي وثنائيات الهجر والوصال. ظهر نوح في سياق فني قسّم فيه المؤرخ الموسيقي فرج العنتري روافد الغناء المصري إلى ثلاثة روافد رئيسية: الأول يضم فئة «المتمسكين»، أولئك الذين تمسكوا بالألحان العربية التراثية كجزء من الهوية التي تعرضت لشكل من أشكال التحلل مع نكسة 1967. أما الرافد الثاني، فتعبر عنه الفئة التي صدمتها النكسة ولجأت إلى سماع الألحان الغربية والاستلهام منها، تعبيراً عن حالة الاغتراب الثقافي. وعبر الرافد الثالث عن اغترابه الاجتماعي من خلال تنغيم اللامعقول والإعلاء من دور الفانتازيا الشعبية، ويعدّ أحمد عدوية أبرز رواد هذا الاتجاه.

في تقاطعات هذه الروافد الثلاثة، كان المثقفون بصدد اكتشاف تجربة أخرى للثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، تقوم على السخرية من النظام الناصري، والاحتجاج عليه. وبين تجربة نجم وإمام، والسعي إلى التمسك بهوية مصرية خالصة في الغناء، حاول محمد نوح صياغة مشروعه الموسيقي مستلهماً تجربة سيد درويش الذي اعتبره المعلم الأول. هكذا، أحيا نوح أشكال الغناء الشعبي المصري وعمل على إظهار العناصر الدرامية في محتواها، بدمجها في الحياة اليومية. والأهم من كل ذلك، هو اشتغاله على عصرنة قوالب الغناء الشعبي الموسيقية، بأساليب عزف جديدة لا تخجل من اعتمادها على الآلات الغربية وآليات التوزيع الموسيقي، مستفيداً من تأثير الصدمة الكبيرة التي أحدثها الرحابنة لدى المستمع العربي، مع تغيير مفهوم الطرب والتحرر من «حلاوة الصوت» كشرط وحيد للغناء، إلى جانب التأكيد على أهمية دور الموسيقى في الأغنية وتحريرها من المرافقة الغثة لمحاكاة المغني. لذلك، سعى نوح إلى المسرح الغنائي كما فعل الرحابنة، وقدم فيه محاولات بارزة أهمها استعادة «العشرة الطيبة» لسيد درويش، كما أدى دور صاحب «بلادي بلادي» على المسرح في العام 1966.
تكشف موسيقى نوح عن انفتاح واضح على موسيقى الشعوب، إذ لم يكتف بدراسة الموسيقى والسينما في مصر، بل غامر بالذهاب إلى أميركا لدراسة التأليف الموسيقي في جامعة «ستانفورد». قدم محاولات مبكّرة في الموسيقى الالكترونية، وساعده هذا الانفتاح على تقديم الموسيقى التصويرية للأفلام الأخيرة ليوسف شاهين، والتي كانت بحد ذاتها علامة من علامات قراءة تلك الأفلام، خصوصاً موسيقى «المهاجر» و«اسكندرية كمان وكمان».
إضافة إلى اشتغاله بالموسيقى، عمل نوح ممثلاً مسرحياً، كما ظهر في بعض الأدوار السينمائية، وبرز على نحو خاص في فيلم «الزوجة التانية» الذي أدّت بطولته سعاد حسني مع المخرج صلاح أبو سيف، وفي «السيد البلطي» مع المخرج توفيق صالح.
في سياقه الزماني، لم يكن نوح صوتاً صارخاً في البرية، وإنما جزءاً من مناخ عام تفاعلت فيه تجارب أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، مع تجارب الفرق الموسيقية الجديدة التي كانت علامة من علامات السبعنيات في مصر، إذ ساعد على ظهورها موت أم كلثوم، ثم رحيل عبد الحليم حافظ، وانهيار أسطورة المغني/ الفرد. كان لابدّ من كسر تلك الأسطورة بأنماط من الغناء الجماعي عبّرت عنه الفرق الموسيقية التي برزت منها «المصريين»، «الجيتس» (The Jets)، «الفور أم» (4M) و«فرقة اسماعيل الحكيم» (The Black Coats)، وأخيراً فرقة «النهار» التي كونها محمد نوح، وضم إليها لاحقاً أبناءه هاشم وسحر ومريم، إلى جانب محمد ثروت وعلي الحجار وعفاف راضي ونجاح سلام.
وخلافاً للآخرين، لم يكتف نوح باللعب في مساحة الخيال الاجتماعي المحافظ والسعي إلى كسره على نحو ما فعلت (ونجحت في ذلك) فرقة «المصريين» معتمدة على كلمات العبقري صلاح جاهين؛ وإنما عمل على كسر المحظور السياسي بالنزول إلى الشارع في أوقات التأزم السياسي التي كانت عنواناً لمعظم سنوات حكم الرئيس السادات. لذلك، يصعب على المصريين تذكر محمد نوح بعيداً عن وقفته الشهيرة في استاد القاهرة خلال مبارة كرة قدم بين منتخبي مصر وتونس في تصفيات كأس العالم عام 1978، وهو يغني «مدد مدد/ شدي حيلك يا بلد». تلك الأغنية التي كتبها شاعره المفضل إبراهيم رضوان، وكانت من بين أبرز ردود المصريين على نكسة 1967، مثلها في ذلك مثل أغنيات أخرى كتبها له سيد حجاب ومجدي نجيب كانت ــ على الرغم من قوالبها الفلكورية ــ تعيد رسم صورة مغايرة للوطن المهزوم، ومن أبرز الأغنيات التي قدمها في هذا السياق «لا تنسانا» و«من صغر السن» و«حدش شاف دلال».
لكن حماس الطليعة المثقفة لمشروع نوح الغنائي تأثر بموقفه السياسي المؤيد لاتفاقية «كامب ديفيد». لم يخفِ نوح حماسه لثورة «25 يناير» 2011، كما لم ينكر مخاوفه من سرقتها من قبل قوى الإسلام السياسي محذراً من استشراء رأس المال السياسي الساعي إلى شراء ذمم الناس. وفي آخر إطلالة تلفزيونية له (تشرين الأول/ أكتوبر 2011) مع الإعلامي خيري رمضان، ثمّن الدور الذي لعبه السياسي محمد البرداعي في تحرير المصريين وإطلاق شرارة الثورة، لكنه أكد كذلك أن الشعب المصري «لا يستحق هذا الرجل». وفي تلك الحلقة الشهيرة، أطلق جملة من التصريحات صدمت كثيرين، حيث أكد أن مصر هي أم الدنيا بالمعنى الرمزي، «لأن المصريين لم يعودودا رواداً في أي مجال، وفاشلين حتى في تنظيف شوارعهم».