في السادسة عشرة من عمره، قرأ بهاء طاهر السيرة الذاتية للمهاتما غاندي. أولع به من يومها، وقرر أن يتحول إلى شخص «نباتي» لا يقرب اللحوم أسوة به. في البداية، لم يستجب الشاب النحيل لنصائح الأسرة والأصدقاء بأن يكفّ عن كونه نباتياً، وخصوصاً أنّ نحافته وإصابته بفقر الدم تجعلان من البروتين المتوافر في اللحوم ضرورة حياتية له. بعد عامين، سيستجيب طاهر للطبيب الذي قال له: «أحترم آراءك، ولكن إما أن تعود لتأكل اللحوم، أو تموت!». يضحك الروائي المصري على رومانسيته المفرطة في تلك الأيام.
لكن غاندي لا يزال واحداً من أبطاله الشخصيين. هكذا، فضّ صاحب «الحب فى المنفى» إضرابه عن اللحوم، ولكنه احتفظ بقدر كبير جداً من مبادئ الزعيم الهندي، لعلّ أهمّها الزهد. «للأسف، نعيش عصر الجشع المتخفي وراء فكرة الاستهلاك. وهذا سبب رئيسي للمصائب التي تشهدها مصر الآن».
ورث بهاء من والده، الشيخ الأزهريّ، النهمَ الشديد للقراءة، والاعتزاز بالنفس. وورث من والدته الحساسية المفرطة أحياناً... حساسية جعلته يرفض لسنوات قبل الثورة مطالعة الجرائد ومتابعة نشرات الأخبار، وخصوصاً بعدما ضربت إسرائيل غزة عام 2008. حينها، أصيب بالاكتئاب الشديد لعجزه عن فعل شيء، بينما يقتل الأطفال بالقنابل يوماً بعد آخر، ويلفّ العالم صمت على هذه الجرائم. لم يتخلف بهاء عن الكتابة في ذلك الوقت ليفضح الصمت. وكان يشارك في التظاهرات باعتبارها «واجباً وطنياً». نال نصيبه من القنابل المسيلة للدموع والعنف المفرط من جانب السلطة المصرية أحياناً، حتى قبل أيام من اندلاع «ثورة 25 يناير». في تظاهرة شموع للمثقفين احتجاجاً على تفجير كنيسة القديسين (1/1/2011)، هجم الجنود والضباط المصريون على المتظاهرين، ووقع بهاء أرضاً، وعندما ذهب المحتجون إلى الضابط المسؤول وسألوه: كيف يحدث ذلك مع كاتب كبير حصل على جائزة تحمل اسم رئيسكم مبارك؟ قال الضابط إنه لم يقصد، لكنّ الأوامر الصادرة تمنع التظاهر هذه الأيام (خوفاً من انتقال عدوى الثورة التونسية) وتوجب التصدي لها بقوة. ثم صمت الضابط قليلاً قبل أن يقول: «بس مين بهاء طاهر الغاضبين من أجله؟!». مرّت الأيام واندلعت الثورة المصرية، وكان طاهر من المداومين في ميدان التحرير، رغم أنّ ساقه كانت لا تزال تؤلمه. وحتى في الأيام التي لم يكن يستطيع النزول فيها إلى الميدان، كان يتصل بالأصدقاء ليطلعوه على تفاصيل المجريات هناك. وفي يوم «موقعة الجمل»، خرج ليعلن تنازله عن الجائزة التي تحمل اسم مبارك في خطوة رمزية هامّة تنزع الشرعية عن نظام قاتل!
الثورة غيّرت الكثير من عادات صاحب «قالت ضحى». «صرت أتسمّر أمام التلفزيون، أتابع بشغف وإدمان ما يجري. أخرج للمشاركة في تظاهرة أو مسيرة، أو ألتحق بأصدقاء في المقهى لنناقش «الأحوال»». حتى السفر خارج مصر، لم يعد بهاء طاهر يطيقه أو يتحمله. يضحك: «اعتدت أن أقضي شهور الصيف في سويسرا بصحبة زوجتي، ولكننا قصرنا المدة إلى أن صارت أسبوعا واحداً!». الرواية الطويلة التي يعكف على كتابتها منذ سنوات أجّلتها الثورة. هي رواية عن «العدالة»، السؤال الأزلي منذ أفلاطون. كتب منها 200 صفحة، وداعبه الأصدقاء بالقول إنّ هذا العدد من الصفحات يكفي: «اكتب النهاية وادفع بها إلى الناشر». لكنه يرفض، لأنه لم يعتد «سلق» أعماله. لا تفاصيل يخبرنا إياها عن الرواية التي لم يختر اسمها حتى الآن: «لن أستطيع كتابتها لو تحدثت عنها». ربما كان هذا جزءاً من أسرار العملية الإبداعية لديه. بعد انتهاء الثورة، رفض بهاء طاهر منصب وزير الثقافة لأنّه يؤمن بأن المثقف لا ينبغي أن يكون في وزارة ما، بل «يكفيه أن يكتب ويستمع إلى كلمته». لكن طه حسين قبِلَ منصب الوزير في وقت من الأوقات؟ يجيب: «لست في مرحلة وحالة صحية تسمح لي بقبول هذا المنصب». يتذكر صاحب «واحة الغروب» أنّ عميد الأدب العربي هو الذي أخذ بيده إلى الأدب: «أثناء الدراسة الثانوية، قال لي أمين مكتبة المدرسة: «بدلاً من أن تلعب في الباحة، ما تيجي تقرأ لك شويّة في المكتبة؟». منذ ذلك الوقت، صار طه حسين رفيقي الدائم (يضحك). قرأت «الأيام» وكانت حدثاً مفصلياً في حياتي».
أكثر الأفكار التي تشغل بهاء في سنواته الأخيرة، تلك المتعلقة بتهميش المثقفين، وإهمال الثقافة، وتراجع دورها في المجتمعات العربية، ما جعل الساحة خالية للثقافة السلفية والإخوانيّة. لكن مع ذلك، يرى «أنها معجزة، أن يكون هناك جمهور للأدب وسط الطغيان الإعلامي الترفيهي، والرياضي، ووسط التعليم البالغ الرداءة، والأزمات الاقتصادية التي تجعل الكتاب آخر اهتمامات المواطن العادي! الحقيقة أنني لا أعرف حلّاً لهذا اللغز!».
لم يُفاجأ صاحب «خالتي صفية والدير» (الرواية التي تناولت الوحدة الوطنية)، بصعود تيارات الإسلام السياسي في انتخابات البرلمان، إذ كان يرصد بدأب شديد التصدع التدريجي، أو بالأحرى «التحطّم الممنهج لمقومات الدولة المدنية، والصعود المنتظم لتيار الإسلام السياسي». ويقول إنّ التيارات اليسارية والوسطية والليبرالية حوربت جميعها بكفاءة عالية، «فلم يبق إلا الإخوان». يشير إلى أن ما يجري في مصر اليوم، محاولات لإعادة إنتاج النظام القديم أو استيلاء تيار الإسلام السياسي على مفاصل الدولة. «حتصعب عليّ مصر جداً إذا وصلت تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة. قدّم المثقفون تضحيات هائلة من أجل النهضة، وهناك من فُصل من عمله، ومن سُجن ومن نفي وشُرد، ومن قُتل... هذا التاريخ سينهار تماماً إذا صعد الإسلاميون إلى الحكم». يغضب طاهر من الرأي القائل بأنّ «ثورة يناير» قامت ضد «ثورة يوليو»، هو الذي ينتمي وجدانياً إلى مشروع عبد الناصر الذي سعى إلى بناء دولة «اشتراكية وطنية» على حد تعبيره، قبل أن ينتهي المشروع مع النكسة: «ما قام به عبد الناصر لا يدركه إلا من عاش تلك الفترة». لكن، ما موقفك من الهتاف «يسقط يسقط حكم العسكر»؟ يصمت، قبل أن يصف هذا السؤال بـ«الشائك»: «أنا أعشق الجيش المصري. لقد وقف مع الشعب منذ تأسيسه. لكنني في الوقت ذاته ضد كل ما قام به المجلس العسكري من إجراءات لإجهاض الثورة». يرى بهاء طاهر أن الثورة ستكمل نجاحها. لكن متى؟ «صديقي عبد الرحمن الأبنودي يرى أن الثورة ستنتصر بعد 12 عاماً، لا أعرف لماذا! وأحاول إقناعه بأن أمامنا خمس سنوات أو أقل لنجاحها. لكننا أخيراً وصلنا إلى حل وسط: أمامنا 8 سنوات فقط!». نحاول الابتعاد عن السياسة. يحدثنا عن ولعه بالروايات البوليسية، وخصوصاً أعمال أغاثا كريستي «التي أعود إليها كلما واجهتني أزمة نفسية». نسأله عن أعماله وشخصياته، وأين نجده بين رواياته؟ «لا شخصية تعبّر عني. أعمالي لا تتضمن تفاصيلَ من حياتي. هي ليست سيرة ذاتية، لكنها في الوقت ذاته تعبير عن محصّلة تجاربنا الخاصة». يخبرنا أن أقرب الشخصيات إليه، هي الدكتور فريد في «أنا الملك جئت»: «يشبهني في بحثه عن إجابات لأسئلة يبدو أنها بلا إجابة... هو إذاً مؤرّقٌ بالأسئلة مثلي!».





5 تواريخ

1935
الولادة في محافظة الجيزة لأبوين من قرية الكرنك في الأقصر (جنوب مصر)

1956
تخرّج من كلية الآداب ـــ قسم التاريخ في جامعة القاهرة

1972
صدرت مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة» (مطبوعات الجديد ــ القاهرة)

2008
حصل على جائزة «بوكر» العربية عن روايته «واحة الغروب» («الآداب»، بيروت ـــ «الهلال»، القاهرة)

2012
يعمل على رواية جديدة تتعلّق بفكرة «العدالة»، واختير رئيساً
لـ«مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية» الذي تقام دورته الأولى في أيلول (سبتمبر) المقبل