يواصل الرّوائي أمير تاج السر التنقيب في التاريخ، والبحث عن شخصيات ومسارات مثّلت جزءاً من ذاكرة أرض السودان، محاكياً ماضي بلد كان مقدّراً له العيش بملامح مختلفة، بعيداً عن الحساسيات التي قسمته إلى جزءين. في روايته الجديدة «أرض السودان ـــ الحلو والمر» (الدار العربية للعلوم ــــــ ناشرون) ، يعود الروائي إلى القرن التاسع عشر، ليحكي رحلة جلبرت أوسمان، أو «عثمان الإنكليزي» إلى السودان، حيث يمتزج الواقع والخيال، ليرسم لوحة فسيفسائية عن أرض مثّلت مهداً للحضارات القديمة، كانت تعيش في تناغم مع نفسها، أكثر انفتاحاً على الآخر، وأكثر قابلية للتحاور والتعايش مع الغريب. رواية أراد منها صاحبها مقاربة جزء من تاريخ لمّا يُقرأ بعد. «الاشتغال على التاريخ يمثّل لي جزءاً هاماً من كتابة النص بنكهته المحلية. إنّه كالبهارات، التي تضاف إلى الكتابة حتى تكتمل طبختها الفنية».
بطل الرواية أوسمان/ الغريب، سيجد نفسه، تدريجاً منغمساً في تجارب حياتية لم يتعوّدها. يحتك بالناس، يتعرّف إلى عاداتهم وطبائعهم، وإلى طريقتهم المزاجية أيضاً في الحبّ وفي التواصل عاطفياً مع الآخر. بعيداً عن الإسراف والحشو، يذكّرنا بسيَر أجيال مضت. يعلّق الكاتب: «آخذ من التاريخ ما يخدم النص فنياً».
كتابة تاج السر للرواية لا تقوم على الإمتاع بتنويع أساليب السرد وتعدد الشخصيات فحسب، بل أيضاً ترتكز على التوثيق والأرشيف. منذ رواياته السابقة، مثل «مهر الصياح» و«توترات القبطي»، يخوض الروائي السوداني في مرحلة إعدادية قبل الشروع في الكتابة. يقول: «أدرس حقبة ما بأساسياتها وهوامشها، ثم أُدرج شخصياتي الخاصة، وقد تكون شخصيات معاصرة في ذلك الزمان، وأكتب نصي». ويضيف: «قد يكون الأمر اجتهاداً منّي في صياغة تاريخ لم يحدث، ولا أدعي أنّه حدث». فقد تولد في ذهنه فكرة رواية من مشهد مرّ عليه، أو كلمة التقطها في الشارع. مثلاً، جاءته فكرة رواية «أرض السودان ـــ الحلو والمر» عندما «شاهدتُ برنامجاً تلفزيونياً عن عدد من الأجانب الذين استوطنوا بلاد العرب، وتطبّعوا بعادات أهل البلد». هكذا، جعل من أوسمان جزءاً من هؤلاء، وأراد له قدراً كما يشتهيه: «أردت من جلبرت أوسمان أن يكون شاهداً على حقبة ما، وفي الوقت عينه، أردت أن أكتب شيئاً معكوساً عن احتكاك الشرق بالغرب». ويستدرك: «ربما خرجت من خطتي المرسومة، وحوّلت النص إلى مغامرة في حدود ضيقة».
في قرية كرمكول (شمالي السودان)، ولد أمير تاج السر. من هناك بدأ رحلة الكتابة، وعرف مكابدات التشبث بالحلم. بدأ شاعراً يكتب بالعامية، ومزّق الكثير من القصص التي كتبها خلال سنوات المراهقة التي مال بعضها إلى نوع القصص البوليسية. بقي وفياً للشعر بالعامية ثم الفصحى، وخصوصاً بعد انتقاله منتصف الثمانينيات لدراسة الطب في القاهرة. هناك، بدأ مخالطة الأوساط الأدبية، ونشر أوّل نصوصه الشعرية في الصحف مقترباً شيئاً فشيئاً من الرواية. تمحورت قراءاته حول الكثير من الأسماء، أمثال عبد الحكيم قاسم، محمد مستجاب، إبراهيم أصلان، وكتاب عالميين أمثال تشيخوف ودستوفسكي. وبدلاً من أن يصدر مجموعة شعرية، أصدر رواية أولى حملت عنوان قريته حيث ولد وتربى (1988 ـــ دار الغد ــــ القاهرة).
حينها، اعتقد بعضهم أنّ باكورته ربما نتاج حنين واشتداد مشاعر الغربة في نفس الكاتب، وخصوصاً أنّها بقيت رواية يتيمة طيلة ثماني سنوات، ليتبعها بثانية حملت عنوان «سماء بلون الياقوت» (1996). هذه الرواية كتبها في غربته الثانية في قطر، ومثّلت منعطفاً في علاقته بالسرد، مع تواصل علاقته الدائمة بالشعر، الذي يبقى بارزاً في كتابته الروائية.
أمير تاج السر يحاول أن يجعل من الرواية ممراً لولوج ماض أضاع ماهيته في زحمة تحولات الراهن. يكتب ليمنح روحاً للمكان، مستحضراً ما فات من حيوات سابقة. ويتذكّر شخصيات مرت عليه وتركت أثراً فيه. رواياته تعج بالشخصيات البسيطة، فهي تغوص في القاع لتخاطب أناساً قد يمرون من أمامنا دونما أن ننتبه إليهم. الاستماع إلى الطبقات السفلى/ اللامرئية خاصية يستمدها الروائي من بيئته وطبيعة تكوينه الاجتماعي المنفتح على مختلف الشرائح: «لا ينفع أن نكتب الرواية انطلاقاً من الذاتي فقط، لكن يجب أن نحيط بكل ما من شأنه أن يجعلها رواية حقيقية، أنا أنحاز كثيراً للبسطاء لأنني أعرفهم أكثر من غيرهم، ولي تجارب كثيرة في الاحتكاك بالعامة في مجال مهنتي». مهنة الطب التي يمارسها منذ أكثر من عشرين سنة، حتّمت عليه في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، التنقل بين مناطق عدة من السودان. مناطق تعيش غالبيتها حياة صعبة يعد فيها الماء ترفاً. «لذلك حين أكتب، تقفز تلك الشخصيات إلى نصي بلا وعي» يضيف.
إذا اقتربنا قليلاً من حياة تاج السر الشخصية، فسنجد أن له قرابة دم بالرواية. هو ابن أخت الطيب صالح، أحد أهم المجددين في الرواية العربية الحديثة. علاقة قربى وميراث أدبي جمعا الروائي بخاله الراحل الذي قد لا يستطيع البوح بما يعرفه عنه في كلمات، لكنّه يختصر ذلك قائلاً: «أتمنى لو كان كلّ الكتّاب في مثل تواضعه وسعة صدره، واحتفائه بكل ما يضجر، من دون ضجر». جمعتهما قرية كرمكول التي كان صالح يستمد منها شخصيات روايته وأمكنتها. تلك القرية الواقعة على هامش لم يمنع الروائيين من بلوغ المركز. لقد دفعا جيلاً شاباً من الروائيين في السودان إلى التفاؤل بمستقبل الرواية في بلادهم: «اليوم أصبح أدبنا (السوداني) معروفاً للكل، وهناك من يكتبون عنه بسخاء، ودور نشر عربية تنشره بكل سعة صدر، ومستشرقون يترجمونه إلى اللغات أخرى». الشيء الذي يبقى أمير تاج السر غير أكيد منه هو الانزلاق الذي جاء ليشوه بعض مبادئ ثورات عربية: «حتى الآن لم أكوّن رؤية كاملة عن الربيع العربي، ما زالت الفوضى التي تحدث، والقتل المجاني، وأشياء كثيرة، تشوش الرؤية. لننتظر حتى تمّحي السيرة غير العطرة، ونحتفي بسيرة معطرة جديدة، ترسمها تلك الشعوب التي تحررت أو تسير في سبيلها للتحرر»، لكنّه يحذّر هنا من «الفوضى الكتابية تحت مسميات شعارات ما بعد الثورات»، وحين تسأله عن مستقبل وطنه، يقف مشتّت الأفكار. بعد هذا التقسيم، لا يرى مستقبل السودان وردياً.



5 تواريخ


1960
الولادة في قرية كرمكول
ـــ شمالي السودان

1988
صدور رواية «كرمكول»
(دار الغد ــــ القاهرة)

1998
صدور «نار الزغاريد»

2010
ترشّح روايته «صائد اليرقات»
(دار «ثقافة للنشر» في أبو ظبي ودار «الاختلاف» في الجزائر) ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية

2012
صدور روايته
«أرض السودان ـــ الحلو والمر»
(الدار العربية للعلوم ـ ناشرون)