قد لا تكفيك جلسات طويلة، كي تتمكن من الإمساك بخيوط شخصية المثنى صبح الحقيقيّة. يشقّ المخرج الشاب كلّ مساء طريقه إلى طاولته المعتادة في إحدى زوايا مقهى «الروضة». هناك، ينفخ مع دخان نرجيلته، شيئاً بسيطاً من قهر السنين المتراكم. ظاهرياً، تبدو ضحكته الدائمة عنوان حياته، لكن من تتاح له فرصة معرفته عن قرب، سيكتشف أنّ المخرج المفعم بالحيويّة، مزق الكثير من صور الماضي وأسدل الستار على مراحل مؤلمة، مرّت ثقيلة، لكنّه تخطّاها ليبدأ من جديد. وعلى الرغم من أنّ موعدنا كان صباحياً، يصرّ صبح على أن نوافيه إلى «الروضة»، المقهى الذي بات أشبه ببرلمان الثقافة السورية. هناك، كان علينا أن نطوي معه أربعة عقود من الزمن. يأخذنا إلى حي جوبر الدمشقي، الذي احتضن كل مراحل حياته: «كنت الطفل المدلّل لعائلة فلسطينية. هيأني والدي للحياة بسرعة شديدة، كأنّه كان على علم برحيله الباكر قبل أن يشتدّ عودي». تعلّم الطفل في ربيعه السادس أن يستمع بشغف إلى أغاني أم كلثوم، والشيخ إمام، وهو يصغي إلى شرح مبسّط لمعانيها من والده مدرّس اللغة العربية، إلى جانب كلاسيكيات الموسيقى العالمية مثل موزار وبيتهوفن.احتلّت نشرات الإذاعات العالمية، مكانها في حياة الطفل الذي أدمن الاستماع إلى أحوال شعبه. انتمى إلى فلسطين، رغم أنّه لم يعرفها إلا من خلال الأخبار، وأحاديث والده وضيوفه. وكان هؤلاء من كبار الشخصيات السياسية الفلسطينية التي تلتقي على الودّ رغم اختلاف انتماءاتها السياسيّة. منذ نعومة أظافره، سكنت لدى صبح علامة استفهام حول الحكمة التي جعلته يولد فلسطينياً لا... برازيلياً مثلاً. وصارت الإجابة حاضرةً بعد حين: «إنّه القهر اليومي الذي يحثّ كلّ فلسطيني على البحث والقراءة والتعلُّم على نحو إضافي، كي يستطيع بناء مستقبله. وذاك إحساس لن يتحرر منه حتى تتحرر بلاده، وهذه حقيقة مطلقة لا بد من أن تتحقّق في يوم ما، لكنّني للأمانة وجدت في سوريا وطناً، احتضنني وكلّ الفلسطينيين، كما لم يفعل أيّ بلد عربي آخر».
حكاية المخرج الشاب مع الموت قديمة، حفرت في وجدانه عميقاً، وتركت أثرها في ذاكرته البصرية، كما ظهر في أعماله التلفزيونيّة لاحقاً. في وقت كانت فيه مخيّلته تبني آفاقها على كتف نهر بردى، تلقّى صفعة القدر الأولى. لم يكن قد أكمل عامه العاشر، حين فقد شقيقه الوحيد. ثمّ تتالت سبحة القدر، ليفقد والده وهو في الثالثة عشرة من عمره، ثمّ خطف السرطان أخته الوحيدة، وأخيراً والدته التي لم يعرفها المثنى إلا متشحة بالسواد. لم يفارقها لون الحزن حتى فارقت الحياة، بعد إصابتها بمرض عضال أفقدها كامل صحتها، وأدخلها في غيبوبة. خلال تلك الفترة الصعبة، استعان المثنى بصديقه عثمان جحا الذي آنسه في وحدته، وسيصبح في ما بعد واحداً من أهم كتّاب السيناريو الشباب. فكّر صبح في إنهاء حياته بالتوازي مع رحيل آخر فرد من أسرته، حين استيقظت والدته من غيبوية طويلة، وبطريقة دراماتيكية ثبّتت نظرها في عينيه، وقالت له بصوت جهوري وبلكنتها الفلسطينية: «اسمع ولاه... أنا خلّفت رجال أوعك تخذلني». في اليوم نفسه، كان على عثمان جحا أن يشقّ ظلام الليلة الماطرة لينجز مراسم جنازة الوالدة، بعدما كتبت نعيها بيدها، قبل أن تفارق الحياة، وتوصي بألا يسقط عن النعي اسم أحد من أقاربها.
تحوّلت الأم الراحلة إلى أيقونة بالنسبة إلى المخرج الفلسطيني. يكفي اليوم أن تحلّفه برحمة هيفاء صبح حتى يمتثل لكل ما تطلبه منه. «اختار القدر أن أفقد أهلي جميعاً على نحو باكر. لهذا، تعاملت وتكيفت مع الفقد، وأنا أفكر في أنّهم رحلوا إلى أماكن أفضل من هذا العالم الذي نعيش فيه». عوّضه عن أهله أصدقاء وجيران، كوّنوا أسرة موازية بالنسبة إليه. وتوطّدت علاقته بعثمان جحا، الذي يكتب له حالياً مع لبنى مشلح، نصاً بعنوان «دامسكو». «رغم كل القهر الذي مررت به، بقي عثمان إلى جانبي. والآن مع ازدياد حضوره في الوسط الفني، أشعر بأنني أقوى، كأنّه ابن لي وقد صار كبيراً».
بين الحلم واليقظة، ومقابل كلّ ذلك الحزن، عرف المثنى الصبح كيف يصنع لنفسه مساحات من الهواء الرطب. أسس دوريّاً لكرة القدم في الحي، لتحتدم المنافسة بين فريق الفلسطينيين، وفريق جوبر. وبين مسقط رأسه وساحة العباسيين، حيث يقيم المترفون وأهل الطبقة الراقية، شارع بسيط كان الحدّ الفاصل بين طفولته، وانطلاقته كشاب نشيط له حضوره ونشاطاته في الشبيبة الفلسطينية. لفت بحضوره مثقفين وشعراء فلسطينيين مهمين، منهم سميح القاسم، الذي نشر له إحدى رسائله، ومحمود درويش الذي أولاه اهتماماً خاصاً. وفي أمسية حاضر فيها السينمائي الفلسطيني ميشيل خليفة، سمع أحد الحاضرين يقول عنه إنّه «محمود درويش السينما». «أشعلت تلك الجملة في داخلي غيرة ورغبة في أن يكون لي حضور ما على صعيد الفن». جرّب كتابة الشعر والقصة القصيرة، قبل أن يتبناه المدير العام لمؤسسة السينما سابقاً حميد مرعي، ويجمعه بنخبة من الأدباء والفنانين، أمثال سعد الله ونوس، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمد ملص، وهيثم حقّي. شيخ المخرجين السوريين، تابع خطوات المثنى عن قرب، منذ عمل معه سكريبت في مسلسل «الثريا»، الذي أنجزه حقّي عام 1997. «كانت تلك الفرصة بداية الطريق، لكنني منذ الساعات الأولى لدخولي الوسط الفني، كنت أسعى لأصير مخرجاً».
تدرّج صبح على سلّم العمل الدارمي، بطريقة منهجية، حتى لمع اسمه كمخرج منفذ إلى جانب حاتم علي في «التغريبة الفلسطينية»، و«صلاح الدين»، و«أحلام كبيرة»، و«الزير سالم»، و«ربيع قرطبة»... رافق بعدها أستاذه الأول هيثم حقي، في أول مسلسل مصري ينجزه فريق فني سوري، وهو «أحلام في البوابة» للراحل أسامة أنور عكاشة. أنجز عمله الأول كمخرج عام 2006 بعنوان «مشاريع صغيرة» لممدوح حمادة، تلته مجموعة من الأعمال سجلت له نجاحات متلاحقة، أبرزها «على حافة الهاوية» (2007)، و«ليس سراباً» (2008)، و«الدوامة» (2009)، و«القعقاع» (2010)، ليحقق نجاحاً لافتاً في «جلسات نسائية» خلال الموسم الرمضاني الأخير.
قدّم صبح رؤية بصريّة مبهرة، وحلولاً إخراجيّة فذّة ومبتكرة عن نصّ لأمل حنا. اليوم يستعد المثنى صبح لإنجاز مسلسل «سكر مالح»، الذي كتبت نصه النجمة أمل عرفة، فيما يعكف على إنجاز مشروع حياته: مسلسل يروي سيرة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. سيكون مشرفاً على ورشة تنجز السيناريو بهدوء، بعدما حصل صبح على موافقة أسرة عرفات، ومباركة منظمة التحرير الفلسطينية. يُشغل صبح بالوضع المتأزم في سوريا كغيره من الفنانين. «لا بد من أن يتوقف هذا السعار، لكي يستمع بعضنا إلى بعض ونعود إلى البيت السوري أولاً وأخيراً، ولعل الإصلاح يبدأ من ذواتنا» يقول. في نهاية حديثنا، وقبل أن ننصرف، يستحضر أهله وأصدقاءه ممن رحلوا... يتذكّر والدته مجدداً: «ليتها كانت هنا، لتفرح لي بكلّ ما أحقِّقه».



5 تواريخ

1971
الولادة في دمشق

1996
دخل الوسط الفني مشرفاً على الملابس في مسلسل «القصاص» لمأمون البنّي

2006
أنجز مسلسله الأول «مشاريع صغيرة»

2008
نال جائزة «أدونيا» لأفضل عمل متكامل عن «ليس سراباً» الذي حقق حضوراً جماهيرياً واسعاً

2012
يستعدّ لتصوير «سكر مالح» عن نصّ لأمل عرفة، بعد النجاح الكبير الذي حقّقه مسلسله «جلسات نسائية»