«أنا المقدّم محمد فارس رائد الفضاء العربي السوري، أعلمكم بأنّنا نمرّ للمرّة الأولى فوق سماء بلادنا الحبيبة سوريا. وفي هذه المناسبة السعيدة، أبعث تحيّاتي القلبيّة وأشواقي الحارّة إلى السيّد الرئيس حافظ الأسد، وإلى جماهير أمّتنا العربيّة في كلّ مكان». كما افتتح ابن مدينة حلب محمد أحمد فارس (1951 ــ الصورة) المحادثة التاريخيّة بين مركبة الفضاء «سويوز ــ TM3» والمكتب الرئاسي في دمشق عام 1987، يعمد الوثائقي «من الفضاء، هنا سوريا» (8 د.) إلى فعل المثل. الشريط الذي أخرجه وكتبه السينمائي التركي إيرول منتاس (1983) لمصلحة الـ«غارديان»، أحدث الإصدارات الوثائقية للصحيفة البريطانية. مع تايلان منتاس في التصوير والتوليف، يرافق «رائد الفضاء السوري الذي أصبح لاجئاً» في إسطنبول. قبل حوالى ثلاثين عاماً، سأله الرئيس الراحل حافظ الأسد: «ماذا ترى وأنت على هذا الارتفاع الكبير عن الأرض؟»، ليأتي الرد من «الرحلة الفضائية السورية ــ السوفياتية»: «سيّدي الرئيس، إنّي سعيد جداً، لأنّي أرى بلدي الحبيب. أراه رائعاً، جميلاً، كما هو في الحقيقة. إنّي أرى سواحله الجميلة الرائعة. إنّي أرى جباله الخضراء الجميلة، وأرى سهوله. أرى جبل الشيخ شامخاً، وجولاننا الحبيب. إنّي أرى كلّ بقعة فيه رائعة، جميلة. إنّي سعيد جداً لهذه المشاهدة». إجابة تعبوية لا تمتّ للعلم بصلة. يصف فارس مكالمته مع الرئيس بأنّها «حركة دعائية وإعلاميّة»، موضحاً أنّه «رائد فضاء الشعب السوري، ولستُ رائد فضاء بشار الأسد أو حافظ الأسد».
اللواء السابق في قيادة القوى الجويّة، والناشر الأوّل لعلم الفضاء في سوريا، اتخذ جانب المعارضة منذ بداية الحرب. في آب (أغسطس) 2012، غادر حلب إلى تركيا، متحدّثاً عن «تهميشه» إثر عودته إلى الكوكب. ها هو يؤكّد لمنتاس أنّ «من واجبي الوطني أن أقف إلى جانب ثورة شعبي المطالبة بالحريّة والكرامة والعدالة». يتحدّث عن نشاطه بداية الحراك، إذ كان يساعد «الجيش الحر» ويسدي النصائح لمقاتليه، مبدياً الأسف على عدم قدرته على حمل السلاح بسبب السن. يردف: «الكلمة هي أقوى من حمل السلاح. الكلمة الصادقة تساعد المقاتلين على الأرض». هكذا، انخرط ثاني رائد فضاء عربي (سبقه الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود عام 1985) في أنشطة مدنيّة داخل تركيا، إضافةً إلى محاضرات علميّة حول تجاربه وخبراته. بلهجة مؤثّرة، يبوح محمد فارس: «أداري حزني بالابتسامة، وبالصداقات التي شكّلتها في إسطنبول. أشعر بأنّ إسطنبول قريبة من حلب». من البديهي أنّ الرجل يفتقد تراب بلده.
«من الفضاء، هنا سوريا» يحيل على النزف السوري من منظور مرير. محمد فارس اسم مضيء في الوعي الجمعي. حديثه عبر الخلاء من أهم دقائق الأرشيف البصري في تاريخ سوريا الحديث (التلفزيون السوري يمتلك الكثير عن تلك الرحلة). هو بطل أجيال كاملة. مثل أعلى لأطفال ردّدوا اسمه في أغنياتهم. كم هو قاسٍ خروج رمز مثله من البلاد، كما كثير من المبدعين والكفاءات. أيضاً، من المؤلم أن يتحدّث رجل علم عن السلاح وفق هذا المنطق، حتى لو كان حمله حقاً أو ردّ فعل من وجهة نظره. الأرض ذرّة ضمن كون سرمدي. رائد الفضاء أدرى البشر بذلك. يا لها من تحوّلات عصفت بالشخصيّة السوريّة. «ماذا حلّ بنا؟» يسأل المرء نفسه متأمّلاً السنوات الأخيرة.
غير أنّ ترميم الجسور المهدّمة بات ضرورياً. هذا طريق النجاة الحتمي والوحيد. بعد صمت البنادق وتبريد العنف الشيطاني، لا بدّ من عقد اجتماعي تصالحي، يمنع الإقصاء وشيطنة الآخر. لا أحد يستطيع التقليل من منجز محمد فارس أو تغييره، مهما اختلف مع الرجل. كذلك الأمر بالنسبة إلى لهجته الحماسيّة وردّه «العقائدي» على سؤال الرئيس. ما حدث قد حدث. منذ بضعة أيام، دُفِن السينمائي نبيل المالح بعيداً عن دمشق، من دون أن تطالب به نقابة الفنانين أو أيّ جهة أخرى. هذه مأساة. في المقابل، سيبقى عبد اللطيف عبد الحميد علماً سينمائياً، حتى لو لم يعجب رأيه البعض. نجدت أنزور صنع الكثير للدراما السوريّة، كما أنّ جمال سليمان أحد نجومها اللامعين. تفاؤل قد يُستمد من ختام الشريط الذي يتحدّث فيه محمد فارس عن «عودة الأمن والأمان»، مؤكّداً بثقة: «الطموح العلمي لا يتوقف في سوريا».