بدون أن أعرفَ السبب، بل لأنني أعرف السبب، أريدُ لهذا اليوم أن يكون مختلفاً. أريده أهْنَأَ وأقلَّ تعاسة.مثلَ حشرةٍ يتيمة ضلّت طريقَ عودتها إلى الوكر، سأُمضي هذا النهار خارجَ نفسي.
وعلى نحوِ ما فعلَ المسيح بصيارفةِ الهيكل، سأَطردُ أشباحَ الناس والجرائم وأوبئةَ العقولِ والمعتقدات والضمائر.
وعملاً بنصيحةِ شيخنا الجليل دستويفسكي، سأُركّزُ بصري ونباهةَ قلبي على ورقةِ نبات (أيّ ورقةِ نبات) وأقول: ما أبدعكِ! ما أذكى مَن أبدعَكْ!

وحين تداهمني الوساوس، سأصرف اهتماميَ عنها بما أعرفُ من حِيَلِ الشعراء والمشعوذين والحمقى:
أُتابعُ غيمةً سارحة، وأحشو بطنها السمين بالراقصات والسكارى والمتسكعين خالي البالِ من الهمّ.
أَعُدُّ الأشياءَ وتفاصيل الأشياء. أعدُّ الكراسي ولوحاتِ الجدران. أعدُّ أرجُلَ الكراسي وحوافّها (أفقيّاً وعامودياً)، ولوحاتِ الجدران وأضلاعَ محيطاتها (أفقيّاً وعامودياً). أُجرّبُ، بعينيّ، قياسَ مساحةِ الفسحةِ السماوية التي طهّرْتُها لتوّي من الآلهةِ والغربان والملائكة وقذائفِ المحاربين. أَعُدُّ، في بالي، كلماتِ (وبعد الخريفذلك أَحْرُفَ) النشيدِ الوطنيّ والصلاةِ الربانية وأسماءَ مَن لم يرتكبوا الجرائمَ مِن معارفي وأصحابي... وأبناءِ معارفي وأصحابي.
وحين تقعُ عينيْ على أشباحِ المحاربين الشجعان (تحتُ في الشارع) أو القنّاصين ذوي الخبرةِ والصبر (فوقُ على سطوحِ الأبنية) سأحاولُ مَحْوَهم جميعاً بتَذَكُّر ما قاله سانت إكزوبري: « إنّ محارباً بلا عقيدة يستطيع أن يغزو العالم». سأفكّر في العقيدة.
سأنظر إلى السماء وأفكّر في محتوياتها. سأفكر في النجوم والكواكب، وأعمدةِ «نيوتن» التي تسندُ النجومَ والكواكب. سأفكّر في ما فكّرَ فيه الأميرُ الصغير قُبيلَ مغادرتِهِ الأرض: «النجومُ جميلةٌ لأنّ فيها زهرةً لا نراها».سأفكّر في الزهرة. سأفكّر في زهرةٍ بعينها على كوكبٍ بعينه. وسأرعى تلك الزهرة.
سأفكّر وأقول: نعم! الأمير الصغير على حقّ. المسيح على حقّ. سانت اكزوبّري على حقّ، ودستويفسكي على حقّ.
سأفكّر في الجمال.
*
«بُمْ!...»: وقعَت القذيفةُ على الشرفة.
طارت الشرفة. طارت أُصصُ الأزهار التي على الشرفة. طارت الكراسي والنوافذ. طارت ثيابُ أولادِ الجيران المعَلَّقةُ على حبل الغسيل في الشرفةِ المقابلة. وطارت الغيمةُ... براقصاتها وسُكاراها: طار النهارُ الأبيض.
طارت الأعدادُ والكلماتُ والأحرفُ والأناشيدُ والصلوات.
طار دستويفسكي ويسوع المسيح... وطار الهيكل.
طار سانت إكزوبري. طار الأميرُ الصغير وطارت زهرتُه:
طار العالم.
.. .. .. ..
قلتُ، محاولاً ألّا أُسْمِعَ نفسي صيحةَ نفسي:
يا نزيه أبو عفش، أُقعُدْ! يا أحمق، يا نزيه أبو عفش، اقْعُدْ! طارت الأحلام.
قلتُ... ونَدِمْت.
.. .. .. ..
لا بأس. سأحاول مرّةً أخرى.
مرةً أخرى سأحاولُ رسمَ هذا النهار الطاهر (الطاهرِ الملَطَّخ).
لا بأسَ، ولا بأس.
لديّ ما يكفي من الوقت لأُباشِر العدَّ مرةً ثانية:
سأَعُدُّ الصيارفةَ والكهنةَ والسفّاحينَ والضحايا.
سأعدُّ النهارَ بنسختِهِ الحقيقية.
سأعدُّ نسخةَ العذاب.
وسأَعُدُّ حياتي.
10/10/2012