- «أنت مصاب بالسرطان ويجب أن تأتي إلى العيادة مساء اليوم لنضع خطة العلاج»- «لن أستطيع أن آتي اليوم لكني أعدك أنني سأكون عندك غداً صباحاً».
- «حالتك متأخرة ويجب أن تبدأ العلاج فوراً».
- «لا يمكن أن أكون موجوداً اليوم».
في صباح اليوم التالي يدخل الرجل على الطبيب فيُفاجأ الأخير، ويقول له «ظننت أنك لن تأتي أبداً»
- «لقد وعدتك»
- «ولماذا رفضت الحضور بالأمس؟».
ـ «لأنني كنت قد وعدت حفيدتي باصطحابها إلى السينما وكما لم أنكث بوعدي لها، لا يمكن أن أنكث بوعدي لك»

القاهرة | هذا الحوار حدث تقريباً قبل ربع قرن بين أسطورة الكرة المصرية صالح سليم وطبيبه الإنكليزي الذي كان يتابع معه حالته الصحية في لندن. حكاية مرض صالح سليم تتشابه إلى حد التطابق مع مرض ابنه الأصغر هشام سليم (1958 ـــ 2022) الذي انطفأ أمس بعد صراع مع المرض. سار الابن على درب الأب، فرفض الإفصاح عن مرضه مثل والده، واعتبر أن الرأي العام لا علاقة له بالأمر، وأن ما يحدث شيء شخصي، يخصه وحده، إلى أن بدأت الأخبار تنتشر حول مرض هشام، ما أدى إلى حالة من الحزن الشديد على ذلك الشاب الجميل الذي كبر أمام أعين المصريين. وعلى عكس ما فعله الأب صالح سليم بالتزامه بالعلاج والفحوص والعمليات بل الخضوع للعلاج الكيميائي، رفض الابن العلاج الكيميائي، ما وضع حالته الصحية في حالة شديدة الحرج. أما عن قصة صالح سليم والحفيدة والطبيب، فهي توضح التزام الجد ومحبته الخالصة لحفيدته وهو ما ظهر بعد سنوات كثيرة أيضاً عندما دعم الأب هشام ابنته نورا وساند قرارها بإجراء عملية تحول جنسي لتصبح رجلاً، ويعلن هشام بشجاعة في لقاء تلفزيوني: «بنتي نورا بقت ابني نور»، ويؤكد احترامه ودعمه الكاملين لابنته أو ابنه.

هشام سليم (إبراهيم) وهدى سلطان في فيلم «عودة الابن الضال»

صفات صالح سليم ورثها الابن هشام كاملة، شكلاً ومضموناً، هيئتهما واحدة وطبائعهما لا تختلف كثيراً، حتى أداؤهما التمثيلي متشابه. فقد شارك صالح في التمثيل في ثلاثة أفلام. وقد ورث الابن من الأب أيضاً محبة الناس، حتى وإن حاولت بعض الأصوات القبيحة تشويه صورته، إلا أنه ظل في القلوب. ورغم أن كلاهما عرف عنه الاعتداد بالنفس والصلابة والقسوة أحياناً، لكن الناس أحبت هشام كما أحبت والده لأنهما يتمتعان بالشجاعة والصراحة ولا يتقبلا «الحال المايل» بلغة المصريين. في صباه وشبابه، كان هشام شقياً ومشاغباً، يدخل في معارك متواصلة مع شباب «نادي الجزيرة» (نادي الطبقات العليا في مصر) وكان والده آنذاك رئيساً لـ «النادي الأهلي» (النادي الكروي الأكثر شهرة وشعبية في مصر). وفقاً لرواية هشام سليم، كان الأب يحذر ولديه هشام وخالد، قائلاً: «لو دخلتم النادي الأهلي وعملتوا اللي بتعملوه في نادي الجزيرة هشنقكم». هذا الفتى الشقي، شعرت صديقة العائلة فاتن حمامة أنه الأقدر على أداء دور ابنها المراهق الشقي «مدحت» في فيلم «إمبراطورية ميم» فرشّحته للمخرج حسين كمال لينال أول دور تمثيلي في حياته عام 1972 وكان عمره وقتها 12 عاماً.
من «إمبراطورية ميم»، بدأت خطوات الفتى في عالم التمثيل، بخاصة أنّه في العمل التالي «أريد حلاًّ» (1975)، وقف للمرة الثانية أمام سيدة الشاشة فاتن حمامة وأيضاً أمام عدسة أحد أهم مخرجي تلك الفترة سعيد مرزوق. لكن انطلاقته الحقيقية كانت في السادسة عشر من عمره عندما اختاره المخرج الكبير يوسف شاهين ليقدم إحدى الشخصيات الرئيسية في رائعته «عودة الابن الضال» (1976). من خلال شخصية «إبراهيم»، تتضح قدرات هشام سليم كممثل، تلقائي، بسيط، مدرك لمقدار وحجم الانفعالات المطلوبة في كل مشهد، قادر على أداء مشاهد في غاية الصعوبة، يجمع بين ردود فعل متناقضة في المشهد الواحد، يلقي حواره بسرعة غالباً، وببطء أحياناً وفقاً لطبيعة المشهد. يواجه صراعاً عنيفاً يبدو فيه كأنه الأضعف أمام جبروت من أمامه، ويواجه كذلك مصيراً مخيفاً يعيد من خلاله حكاية عمه أو «الابن الضال» في الفيلم، التي جسّدها أحمد محرز، لكنه في النهاية يظهر قوة وإصراراً لا يملكه الآخرون. يغيب هشام عن الشاشة بعد هذا الفيلم لمدة ست سنوات، والغريب أنه يختار أن يدرس السياحة لا التمثيل، ويعود عام 1982 وقد صار شاباً ليقف من جديد أمام عملاقة من عمالقة الفن، وهي الراحلة شادية في فيلم «لا تسألني من أنا» (إخراج أشرف فهمي). ذكاء هشام في اختياره لهذا الدور جاء من محاولته للخروج من عباءة الفتى الوسيم الأرستقراطي المدلل، فقدّم هنا شخصية شاب فقير، ابن بلد وابناً لخادمة، يعمل في تصليح السيارات، صريح وفخور بأصوله الشعبية الفقيرة، وضوحه يجعله مصدر ثقة لجميع من حوله، ويجعله أيضاً الأقوى بين أخواته. ورغم تألق هشام في هذا الدور، إلا أن المخرجين أصروا أن يعيدوه مرة أخرى، إلى الشخصية نفسها التي بدأ بها، وتشبه إلى حد ما شخصيته الحقيقية: الشاب الثري، المدلل، المشاغب، الذي يحمل لمحة من الشر، لكنه يخبئ وراءها الكثير من الخير والطيبة. يتجلى ذلك في أعماله في فترة الثمانينيات أهمها دوره في فيلم «تزوير في أوراق رسمية» (1984 ــ إخراج يحيى العلمي).
سنوات الثمانينيات والتسعينيات، شهدت صعوداً ملحوظاً لهشام سليم، ليس كبطل مطلق، فالبطولة المطلقة ونجومية الشباك خاصمته طوال عمره، لكنه كان ممثلاً متمكناً في مساحة الأدوار التي يؤديها، ما أشار إلى أن هذا الشاب لم يسعَ وراء حجم الدور بقدر سعيه لأهميته في الأحداث. الفترة التي شهدت صعوده كانت فترة – إلى حد كبير – سيئة في تاريخ السينما المصرية، إذ انقسمت يومها الأفلام إلى أربع نوعيات: أفلام جادة تحمل فكراً وفلسفة تبنّى تقديمها جيل الواقعية الجديدة مثل داود عبد السيد، وعاطف الطيب، ومحمد خان، وخيري بشارة. هؤلاء كانت لهم مجموعة معينة من النجوم المفضلين على رأسهم أحمد زكي ونور الشريف. وهناك أفلام نجوم شباك لم تخرج عن عادل إمام ونادية الجندي، أو أفلام المقاولات التي كانت تعبأ بسرعة للبيع في الخليج بنجوم صف ثان وثالث ورابع أو أفلام تحاول البحث لنفسها عن مكانة وسط هذا الزخم.

من «إمبراطورية ميم»، بدأت خطوات الفتى في عالم التمثيل

رغم بدايته القوية، وذكائه في الابتعاد لسنوات حتى يعود بمظهره الجديد في «لا تسألني من أنا»، انساق هشام سليم في السنين القليلة التالية، للعمل في أفلام لم تشهد نجاحاً سواء على المستوى النقدي أو الجماهيري. والغريب أنه كان يقبل العمل في تلك الأفلام، غالباً بغرض الانتشار أو كسب قدر من المال يوفر له حياة مستقرة، ليقدم عام 1985 ثلاثة أفلام، وفي عام 1986 ثمانية أفلام، وفي عام 1987 خمسة أفلام. لكنه يعود إلى تدارك نفسه في عام 1988 ليقف أمام إحدى كبار نجمات السينما ماجدة في فيلم «عندما يتكلم الصمت» (إخراج كريم ضياء الدين). بعد هذا الفيلم، بدأ هشام في اختيار أدواره بدقة وعناية، وبالفعل قدم عدداً من الأدوار الجيدة، واحداً تلو آخر. مثلاً، دخل في العام نفسه، عالم الدراما التلفزيونية برائعة «الرايا البيضا» (إخراج محمد فاضل)، ثم قدم واحداً من أهم أدواره في السينما أمام نجمة مصر الأولى نبيلة عبيد في فيلم «اغتيال مدرسة» (إخراج اشرف فهمي). بعدها يأتيه أحد أهم أدوار عمره، «عادل البدري» في مسلسل «ليالي الحلمية» (إخراج إسماعيل عبد الحافظ)، وبداية من الجزء الثاني عام 1989 وحتى الجزء السادس عام 2016. يكبر الشاب عادل البدري، وينضج أمام أعين ملايين المصريين والعرب، يشاهدون تحوله من الشاب المتهور، الطائش، الأناني، إلى الرجل العاقل، المتزن، العطوف، الذي يساند من حوله ويغدق عليهم بمشاعره النبيلة.
الدخول إلى قلوب الناس من خلال «ليالي الحلمية» صاحبه أيضاً دخول عالم كبار نجوم وصناع السينما. بدأ هشام سليم في المشاركة في عدد من أهم الأفلام في تلك الفترة. مثلاً وقف أمام عمر الشريف في فيلم «الأراجوز» (1989ـــ إخراج هاني لاشين)، وفي «إسكندرية كمان وكمان» (1990 ــ يوسف شاهين)، و«أرض الأحلام» (1993 ــ إخراج داود عبد السيد) الذي وقف فيه للمرة الثالثة أمام فاتن حمامة، وفي فيلمين من إخراج رأفت الميهي هما «قليل من الحب كثير من العنف» و«ميت فل» في عامَي 1995 و1996. كما شهدت بعض الأفلام الهامة في تلك الفترة ظهوراً مميزاً لهشام سليم، سواء كبطل أول أو ثان منها «يا مهلبية يا» (1991 ــ ىإخراج شريف عرفة) و«يا دنيا يا غرامي» (1996 ــ إخراج مجدي أحمد علي) و«جمال عبد الناصر» (1999 ـــ إخراج أنور القوادري) الذي قدم فيه شخصية المشير عبد الحكيم عامر بصورة شديدة البراعة، ربما لم يتمكن أحد من تقديمها مثله.
التسعينيات هي العصر الذهبي في مسيرته الفنية


التسعينيات هي العصر الذهبي في تاريخ هشام سليم الفني، سواء على مستوى الأعمال السينمائية أو الدرامية. إذ تألق في بعض الأعمال الدرامية مثل «وما زال النيل يجري» (إخراج محمد فاضل»، «أرابيسك» (إخراج جمال عبد الحميد) و«هوانم جاردن سيتي» (إخراج أحمد صقر). كما شهدت تلك الفترة تألقاً شديداً وموهبة جديدة أعيد اكتشافها في هشام سليم، وهي قدرته على تقديم الاستعراضات من خلال مسرحية «شارع محمد علي» (إخراج محمد عبد العزيز) التي شارك في بطولتها مع شريهان وفريد شوقي عام 1991.
كان يتواجد دوماً بشكل متوازن في السينما والتلفزيون، يختاره المنتجون والمخرجون لأداء شخصيات درامية تبدو عادية، لكن حضوره المتميز يضع تلك الشخصيات في إطار غير عادي، ويجعلها تترك بصمة مؤثرة في العمل. وقد اعتبره كثيرون «الغراند» المثالي في السينما والدراما، القادر على أداء شخصية الرجل الجذاب كبير السن، الأربعيني أو الخمسيني، العاقل المتزن، صاحب الشخصية القوية القيادية، لكنها في الوقت نفسه الشخصية الرومانسية الحنونة. هذا الحصار في أدوار بعينها، أدى بالضرورة إلى انحسار موهبة هشام سليم وخبرته وثقافته التمثيلية، وربما لو كان قد صادف في طريقه مخرجين ومنتجين أكثر جرأة لتوظيف مهاراته وقدراته، لكان قد أصبح في مكانة أخرى في تاريخ الفن المصري. لكن، على أي حال، نال هشام سليم طوال عمره محبة المشاهدين ودعمهم كأنّه ابن لهم.