«بيروت ترنّم» مهرجان موسيقيّ اتخذ لنفسه إطاراً محدّداً منذ انطلاقه: زمن الميلاد. تحت هذا العنوان، بنى شخصيّته على مدى 14 دورة. ويمكن القول إنه بصموده في ظلّ الهشاشة اللبنانية العامة، راكم بعض العراقة والصّيت الحسن لدى الجمهور، من الناحية الفنيّة كما لناحية مجّانية أمسياته. اليوم، يقوم المهرجان بخطوة رمزية، تُبقيه ضمن إطاره العام لكنها توسّع آفاقه لتطال المناسبة الأهم، إلى جانب الميلاد، في الروزنامة الليتورجية لدى الطوائف المسيحيّة: الفصح. مساء اليوم، تُقام أمسية وحيدة في «كنيسة القديس يوسف» (مونو/ الأشرفية) ببرنامج يتمحوَر حول هذه المناسبة ويُقسم إلى شقّين: الإرث الكلاسيكي الغربي والإرث الشرقي.
تتولى أصوات عدة الإنشاد الفردي، من بينها ميرا عقيقي

تحت عنوان «الفصح في الموسيقى ـــ رحلة من تقاليد حقبة الباروك الغربية إلى التقاليد المارونية الشرقية»، يقود الأب توفيق معتوق «أوركسترا الحجرة لبيروت ترنّم» (أعضاؤها من الأوركسترا الوطنية بشكل أساسي) و«جوقة الجامعة الأنطونية»، بالإضافة إلى الإنشاد المنفرِد الذي يتولاه ميرا عقيقي (سوبرانو)، غرايس مدوّر (ميزو-سوبرانو)، شارل عيد وبشارة مفرّج (تينور) وسيزار نعيسي (باريتون).
البرنامج هو من النوع الذي لا يُفَوَّت لمحبّي الموسيقى بشكل مجَرَّد كما للمؤمنين. وإذا أخذنا في الاعتبار الشحّ الفنّي الذي نشهده حالياً (فضلاً عن مؤشرات تفاقمه مستقبلاً)، ترتقي الأمسية إلى مستوى الضرورة الحيوية. في الجزء الأول من الأمسية، نسمع عملَين أساسيَّين. الأول هو الـ«ستابات ماتر» الأشهر في تاريخ الموسيقى، أي ذاك الذي وضعه المأسوف على شبابه، المؤلف الإيطالي بيرغوليزي (1710ــ1736) والمبني على الصلاة الحزينة التي تصف معاناة مريم العذراء أثناء صلب يسوع الناصري، ابنها الوحيد. حتى لو جرّدنا هذه الحقيقة التاريخية من كلّ أبعادها الدينية، يبقى حجم الألم عظيماً في المطلق. وهذا ما استطاع ترجمته بيرغوليزي، مستنداً ربّما إلى معاناته الشخصية مع مرض السلّ الذي كان يتحضّر للإجهاز عليه أثناء عمله على هذه التّحفة. يحتوي الـ«ستابات ماتر» على مجموعة من المقاطع الإنشادية، يتولّى أداءها منفردتَين حيناً ومجتمعتَين حيناً آخر السوبرانو والألتو (أو الميزو ــ سوبرانو)، وليس فيها إنشاد جماعي. علماً أنّ في برنامج الأمسية تمّت الإشارة إلى مشاركة الجوقة (ربما هناك توليف لبعض المحطات). لمحبّي المعلّم الألماني باخ، نذكر أنّ الأخير أعجِبَ بهذا العمل وتبنّاه مُوَلفاً موسيقاه (مع بعض التعديلات) على نَصّ مختلف (رقم العمل في كاتالوغ باخ هو BWV 1083). هنا نصل إلى النواة الثانية للقسم الأول من البرنامج وهو الكنتاتا الشهيرة Ich Habe Genug (لقد اكتفَيت/ BWV 82). عندما ألّف باخ هذا العمل (عام 1727 ـــ والمناسبَة ليست الفصح، لكن حزن الآريا الافتتاحي يجعلها مناسِبة له) كان قد راكم خبرةً تُقاس بعشرات الأعاجيب من هذه الفئة (أو من فئة الموسيقى الإنشادية عموماً) بعد أربع سنوات من تولّيه منصبه كمرشد موسيقى عام في لايبزغ الألمانية. نجد هذه الكانتاتا بصوت آلتو (أو كونتر تينور) أو باريتون (أو باص) أو سوبرانو، وهنا نسمعها في نسختها الأكثر رواجاً التي يتولّاها الباريتون سيزار عنيسي (نُشير إلى أنها لا تتطلب لا مغنيّين آخرين ولا غناءً جماعياً، بخلاف معظم كانتاتات باخ). في الجانب الغربي، نسمع مقتطفات لبيرغوليزي أيضاً وكذلك لدونيزيتّي، لكنها لا تنافس العملَين المذكورين أعلاه.
في الجانب الشرقي لهذه الأمسية المخصّصة للفصح (للآلام تحديداً)، نجد الثوابت التي تُعدّ إعجازاً في التعبير والحزن والجمال من ريبرتوار ترانيم الجمعة العظيمة مثل «أنا الأم الحزينة» و«وا حبيبي» (في الإعداد الذي يحمل توقيع الراحل توفيق سكّر)، بالإضافة إلى عناوين أخرى من تلحين الأب جوزيف واكد والأب بولس الأشقر (إلهي لماذا تركتني، أمر الربّ مستقيم…)، يتخلّلها إنشاد منفرِد وجَماعي.

* «بيروت ترنّم»: أمسية إنشاد ديني خاص بالفصح ـــ الثامنة والنصف من مساء اليوم في «كنيسة القديس يوسف» (مونو/ الأشرفية). الدعوة عامة.